"أَلتيْ اَحَروم لوْ"

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

أغلق أصابع كَفِّه اليُمنى عدا الإبهام، وأنشد بنبرةٍ استعراضيةٍ منخفضة: "عورت ذن غدون غدون" (أي: قالت هذه هيا بنا)، رفَع سبَّابته وأكمل: "عورت ذن الهون الهون" (أي: قالت هذه إلى أين؟)، رفع الوسطى وقال: "عورت ذن نعزم نشرق" (أي: قالت هذه عزمنا على السرقة)، رَفَع بنصره وقال: "عورت ذن أَلّتيْ حَروم لوْ" (أي: قالت هذه لا أكل الحرام). وأخيراً.. رفع خنصره وقال: "عورت ذن ال اكلث بكن كل" (أي: قالت هذه سأخبر عنكم جميعا).

ارتفعتْ ضَحِكات الأطفال، بعد أن ختم الشَّريد مسرحية الأصابع، في محاولة منه لإلهاء الأطفال عما يحدث داخل الكهف. اتَّكَأ الشاب إلى صخرة، ويداه مُقيدتان خلفه ظهره، وأوداجه تكاد تنفجر، وتسمع صرير أسنانه يعلو بين الفينةِ والأخرى، ثُمَّ يعض شفتيه بتوتر، وجمر مُقلتيه يخبُو ويتَّقد. تمعَّن الشريد بالشاب، وعاد يُكمل غناءه للأطفال.. هو أكثر من يعلم بضراوة البشر، فلن يعتد به أحدٌ بعد الآن، إن لم يُطفئ نيران العار والقهر بإراقة لونٍ أحمرٍ قانيٍّ، وإذكاء رائحته وإضرام لهيب البطولة وسياط الشجاعة بكل من تسوِّل له نفسه الهمس؛ فجبين الشرف لا يُجلى إلا بدفن العارِ حيًّا.

وقفَ الشريدُ، وتقدَّم خطوتيْن نحو الشاب النحيل، أخرج محفظته الجلدية، ووضع التبغ في فوَّهه (الفيجير)، أشعل النار، وسحب نفسًا مُتسارعًا مرة ومرَّتين، رفع رأسه ونفث دخان التنباك، رفع حاجباً ومدَّ يده نحو الشاب، وهزَّ رأسه مُستفسراً: هل تُريد؟

حدَّق الشاب بالشريد بصَمت، ثم جثَا -الشريد- على ركبته بالقرب منه، وقرب (الفيجير) من شفتيه الغليظتيْن، سحب الشاب نفساً بشراهة دفعةً واحدةً فاختنق وَسَعَل بقوَّة، ربت الشريد على ظهره يُساعده على التنفُّس. أعاد الشاب الكرَّة، وسحب نفساً تلو الآخر، سأله الشريد بتردُّدِ مُرتاب وحذر: "مَون اَشَيرك طَهَون؟" (أي: مَن فعل هذا؟). نَفَث الشاب الدخان دفعةً واحدةً، واصطكت أسنانه، وقال بغيظ مكبوت: "اَدعَن لوْ" (أي: لا نَعلم)، استذكرَ الشابُّ ما حدث  للمعتوه البكماء، كانت تهيم على وجهَها بالأيام والأشهر، وكان الأمر مُتعادا عليه من قبل سكان المنطقة، نعتها الجميع بالخرساء المعتوهة، ولم يكن من السهل السيطرة عليها؛ فالكل لديه أعباءٌ تُثقِل كاهله. لم ينفع حَبسُها؛ فقد كانت تجنحُ للعنف حين تشعر أنَّ حريتها تُسلب منها وتقيَّد، فتسعى للتملُّص والفرار إلى أن يَئِس أهلُها منها، إلا أن غُربان الشؤم تناقلتْ أخبارَ برُوز بطنها، وأصبح الجنون والعَتَه دنسًا ورجزًا من أعمال الشياطين، فتوجب محوها من الوجود.

انقطع حديث الشباب، اتَّجهت نَظراتهما نحو مدخل الكهف، أعطت الأم بناتها قربة ووعاء وأمرتهم بجلب الماء.

طوَّق الصمتُ ثلاثتهم، لا يقطعه إلا نظرات  الريبة والفضول، تقدمت الأم وقالت: "كه، سه عجت؟" (أي: لِمَ؟ هل أرادت هي ذلك؟)، هَطَلت غَمامة غباء على الرجلين، ارتفع حاجب الشريد باستفهام، وقدحت شرارات الغضب بالشاب، وصرخ: "مِشَيردوت اَبليس زُحوت تون بَدفرس" (أي: المجنونة الشيطانة، جاءتنا بدنسها).

قبضتْ الأم حِفنةً من التراب والحصَى من تحت قدميها، ورمت بها في وجه الشاب، وصاحت: "دَفر! أَينه من دفر؟ هير هجيم ليس يكن أعور أمون؟" (أي: عار! أيُّ عار؟ وإن اعتدى عليها من يحمل الذنب والعار)، وأردفت: أنتم العار، من يبسط راحته على من هو أضعف فهذا  العار بعينه، قالت الأم للشريد إنَّهم بحاجة إلى حطبٍ والكثير من الماء المغلي، وأقفلت عائدة إلى مدخل الكهف، ثم توقفت وشزرت الشاب بطرف عينيها، وقالت: "أَغيجْ اَخبسون، بَش بَهوق بَاَيديش اَمَلاَت" (أي: الرجل القذر به بَرَص بيده اليُمنى).

اتَّسعتْ حدقتا الشاب النحيل، وأطبق جفنيه بشدة، نَكَس رأسه ولامستْ جبهته الأرض، ومرَّغ رأسه بالتراب بنُكران وتكذيب. الفاعل رجلٌ به برص بيده اليُمنى، إنَّه ابن عمِّه، لم يكن غريبًا قط، كان يُساعده في البحث عن الخرساء طيلة الأسابيع الماضية، ويحثُّه على تطهير نفسه من الدنس، قائلا إنَّ تفتُّق الثوب لا يزهُوه الترقيع، وإلا ستلفظه مجالس العشيرة والرجال ويحط من قدره، ولن تعلو هامته. انطلقت آهات مسعورة لجريحٍ تقرَّحت ندوبه، ولم يستطع الفتك بمن ظفر به، استقرَّ رأس الشاب النحيل على الأرض وخُصلات شعره الأسود الأجعد تُخالط التراب، أمالَ رأسه يميناً، وإذا بقدمين عريضتين لغريب.

رفع نظره إلى أعلى، إنه رجلٌ متوسط الطول، نحيل الكتفين، عريض الحوض، وبطنه بارز، ويمسك فأساً يهدِّد بها الشريد. التفَّت أصابع الشريد حول محفظته الجلدية و(الفيجير) بين شفتيه، رفع حاجباً وابتسم، وحدق بالشاب النحيل الذي بدوره يُحملق بالرجل وفأسه، رفع جذعه وتناثر التراب من شعره الأجعد، حرك لسانه داخل فمه وعلى وجهه أثر التراث، تَشَدَّق ضاحكاً، وقال: "تَوبْ ذَحَيّْ بَارَدِيدي" (أي: أهلا وسهلاً بابن عمي).