ذات صيف

 

عبدالله الفارسي

ذات صيف من العام 2017، كُنت في حالة نفسية سيئة للغاية؛ فقد تقاسَم الدائنون كل تصفية رواتب الصيف، ونهشوها نهشا كما تنهش ضِباع إفريقية عِجلا ميتا، فلم يبقَ في حسابي سوى 347 ريالا فقط، وكمية ضخمة من حالة مزاجية قاتمة خانقة؛ فكان لا مناص أمامي من الهرب من الوطن بأسرع وقت، قبل أن أرتكب جريمة بدوافع الاضطراب النفسي والانهيار العصبي والتقيُّؤ الكبدي؛ فقررت السفر إلى دولة رخيصة، فكان الاختيار: إندونيسيا، ذاك البلد الكبير العظيم، المعبأ بالبشر، والفقر، والمطر، والشجر، والزلازل، والبراكين، والمؤمنين والفاسقين.

إندونيسيا العجيبة.. حين تنزل مطارها تشعر للوهلة الأولى بأنك تمشي في قارة عظيمة، وأرض غريبة، ذلك الأرخبيل الرهيب الشاسع، لوحة فاتنة من الجمال.. صورة باهرة من الروعة والإتقان.

حين تركب سيارة الأجرة لتعبُر بك شوارعها الثعبانية الملتوية، متوجهة بك إلى داخل جاكرتا، مدينة العشرين مليون إنسان، حين تدخل جاكرتا أول سؤال يتبادر إلى ذهنك: كيف يعيش هؤلاء البشر؟ أين يختفون حين يحل الظلام؟ وماذا يأكل كل هؤلاء الناس؟

منظر جاكرتا منظر تقشعرُّ له الأبدان، تُصاب بالتوهان والهذيان والدوران.

نزلت فندقا رخيصا من فئة الثلاث نجوم، أو ربما من فئة الخمس نجوم، لستُ مُتيقنا، فأنا لا أفقه شيئا في النجوم الفندقية كثيرا، استقبلتني موظفة الاستقبال فتاة صغيرة، تملك خديْن متوردين تعلوها حُمرة كحمرة الشفق، رشيقة، تحمل شفتيْن صغيرتين كحبتيْ فراولة لم تنضُجا بعد، كلَّمتني بصوت خافت هامس، اضطررت أن أقرب أذني الطويلة منها لأسمع ما تقول، فشممت من صوتها رائحة الكرز ونكهة المطر.

في الصباح، نهضتُ كصبي صغير، مليء بالحماس والنشاط والثبات والغناء والغباء.. لبستُ "شورت برمودا" الطويل، و"تي شيرت" أبيض أنيق، وحذائي الـNike الجديد، ثم انطلقت في الشوارع المجاورة، أتسكع على سجيتي، كأحمق مخبول.

الشعب الإندونيسي عموما شعب طيب.. مسالم.. بريء.. خال من الخبث والأحقاد والضغائن، شعب من السهل جدا التعايش بينهم والتأقلم معهم والانغماس فيهم. نادرا ما يعترض طريقك أحد، أو يضايقك إنسان، حتى المتسولين مسالمون للغاية، إن أعطيتهم فرحوا وضحكوا، وإن منعتهم صمتوا وابتسموا.

قضيت ثلاثة أيام في جاكرتا، ثم صعدت للتسكع فوق جبل بانشاك وما حوله، ولكني رجعت بسرعة هربا من كثرة السياح العرب هناك؛ فغالبا ما تكثر الحماقة والفوضى والسفاسف والاستهتار والتفاهات بأنواعها في تلك الظروف.

عُدت إلى ذات الفندق.. وفي أحد صباحاتي وأنا في قمة تسكعي، وذروة تبعثري في الشوارع، سمعت رجلا محترما يتحدث في هاتفه النقال، كان يتحدث بلهجة سعودية لذيذة، فتوقفت، منتظرا أن ينهي مكالمته. انتهى الرجل من اتصاله، فسلمت عليه، ورحب بي وبسلامي، فعانقته وعانقني. كان ذلك الرجل هو سالم؛ ولأنه من مدينة الإحساء أطلقت عليه "سالم الإحسائي".

أخبرني سالم قصته العجيبة؛ حيث وطأت قدماه إندونيسيا في العام 1996، وهو في الثلاثين من العمر، وفتح مكتبا لتوريد عاملات المنازل، وخاض غمار الحياة في إندونيسيا لوحده، دون مساعدة من أحد، وواجه صعوبات جمة للتأقلم مع الواقع الإندونيسي والتكيف معه كتاجر وصاحب مكتب، لكنه تجاوز كل العقبات، وقفز فوق كل الصعاب، وسقط وتعثر.. ثم نهض وركض.

أتقن اللغة الإندونيسية المعقدة بمهارة، فأخذ ينطقها كأهلها. كان العمل في مجال توريد العاملات إلى البحرين والكويت والسعودية مُربِحا للغاية في حقبة التسعينيات وأوائل الألفية. لكن مع الوقت أخذت هذه التجارة تتعرض للمشاكل والضغوط بسبب سوء المعاملة وجرائم القتل التي تتعرض لها العاملات في الخليج، والتي تسببت في إغلاق كثير من مكاتب توريد العاملات في إندونيسيا، ومنعت الحكومة الإندونيسية توريد مواطنيها للعمل في الخليج إلا بشروط صارمة جدًا.

كان سالم الإحسائي أحد هؤلاء المتضررين، فقد أغلق مكتبه وفقد مصدر رزقه الوحيد، لكن سالم كان مناضلا كبيرا ومقاتلا عنيدا اعتاد السقوط والنهوض.. اعتاد التشظي والالتئام.. اعتاد الهزيمة ثم الانتصار. لم يفكر مطلقا برفع الراية البيضاء والعودة إلى السعودية، كان قد تكيف مع طبيعة الحياة في إندونيسيا وأصبح كسمكة نهر إندونيسية عنيدة.

وحقيقة من يعيش في إندونيسيا يلتصق بها، فهناك شيء غريب وجاذب في الطبيعة الإندونيسية يُجبرك على الارتباط بها والهيام فيها. فقد اضطررت إلى تمديد إجازتي أسبوعين آخرين. وعرض علي سالم مرافقته إلى بيته، فغيرت حجزي وأجلت تاريخ عودتي.

التصقتُ بسالم كصديق قديم، وكأنني أعرفه منذ عشرين عاما، تكيَّفنا مع بعضنا بسرعة غريبة، وتناغمنا معا بهدوء وسلاسة. أخبرني سالم بأنَّه التقى بفتاة إندونيسية سلبت فؤاده، فتقدم لخطبتها وتزوجها. كانت معلمة في مدرسة ابتدائية، بَنى لها بيتا جميلا في مقاطعتها -وهي منطقة "تانجيرانج"- حين كان مكتبه يدر عليه الآف الريالات، وهي مدينة جميلة تبعد عن جاكرتا 320 كم.

دلل سالم عروسه الجميلة أيما دلال، قفز فوق أسوارها واقتحم قلعتها ودك حصنها، وسيطر على قلبها وفؤداها، وأنجب منها ثلاثة أطفال، يحملون لون الصحراء ورائحة الغابات ونكهة الأشجار. اصطحبني سالم إلى مدينته تانيجرانج؛ حيث بيته الجميل هناك. كانت منطقة تاينجرانج جميلة جدا لا يمكن أن يصف قلمي جمالها. كان سالم يملك دراجة بخارية جديدة، والدراجات وسيلة نقل مهمة ورخيصة جدا في شرق وجنوب آسيا، كان يقول لي: "تعال اركب أيها العماني المسكين المثير للشفقة، تعال أريك الجنة". فأركب خلفه ملتصقا بظهره كطفل خائف ملتصق بظهر أمه، وينطلق بي في تلك الجبال والسهول الغناء.. شوارع نظيفة جميلة مغسولة بالمطر مخيوطة بالأعشاب، مسيجة بالأشجار، ملفوفة بالنقاء، ملتحفة بالسحاب والضباب. جبال مكسوة بالخضرة، مطرزة بالأزهار. كان المطر يداعب وجوهنا ويرشنا طوال الطريق بالرذاذ والضحكات. كنا نتوقف لنأكل الذرة المشوية في الطريق، كانت أكشاك الذرة تتناثر على طول الطريق الجبلية الخضراء -لم اذق ألذ واشهى من تلك الذرة المشوية في حياتي. كان يجلبها المزارعون طازجة يوميا من حقولهم، وكان منظرها يخلب الألباب ورائحتها تسيل اللعاب وطعمها يطفئ الجوع ويغسل الألم والعذاب.

وجوه بائعات الذرة تفتح شهيتك للحياة قبل أن تفتح شهيتك للطعام؛ فتضطر أن تطلب مزيدا من الذرة لتأكل بشهية حصان جائع وتبحلق عينيك الجائعتين بشراهة وفرح فارع.

لم أصادف متسولا واحدا طوال رحلتي هناك، الجميع فقراء لكنهم سعداء، الكل بسطاء لكنهم مبتهجون.

الشيء العجيب أنَّ الشوارع في كل مكان شوارع مرصوفة، حتى تلك الممتدة إلى القرى القابعة فوق أعالي الجبال. وشبكة الهاتف نشطة هائجة وفي ذروتها وبسعر زهيد جدا. كان سالم يردد على مسامعي: "عبدالله، الذي يعيش هنا في هذه الجنة، هل يفكر أن يخرج منها؟!"، فأرد عليه: "لا.. طبعا من يعش هنا لا يُمكن إلا أن يموت هنا". فقال لي: "لماذا لا تتقاعد وتعيش البقية الباقية من عمرك التعيس هنا؟". فقلت له: "المتعوس متعوس يا سالم، ولو حطوا على رأسه فانوس".

لكنها فكرة رائعة، سأدرسها جيدا، سأحاول التفكير للفرار والسفر والتخطيط للنجاة والحياة والهرب.

قضيت 10 أيام بمعية سالم الإحسائي، كانت 10 أيام خيالية؛ وكأنها حلم لذيذ من أحلامي الليلية الشتوية الطويلة، داعب مخيلتي وجال في أضغاث عقلي درجة العبث. أصرَّ سالم الإحسائي على مرافقتي إلى مطار جاكرتا لوداعي.. هناك، عانقني وقال لي مداعبا: "عد الآن إلى شقائك، ومارس تعاستك بهدوء يا صديقي!!".