علي الرئيسي *
الحكمة تقول: "لن يسلم أحد من كوفيد 19 ما لم يكن الجميع في أمان"، وقد نتفق أو نختلف مع ما ذهب إليه الفيلسوف الإيطالي جورجيوأجامبين، قائلا: إنَّ كلَّ سياسات الإقفال والعزل الهدف الرئيسي منها هو الحد من حرية الإنسان، أو كما ذكر سابقا الفيلسوف ميشال فوكو بأنه السيطرة والهيمنة على الجسد والحياة.
غير أنَّ هيمنة بعض البدان على اللقاح ومنع البلدان الأخرى من الحصول عليه، لن يؤدي منطقيا إلى القضاء على الوباء، وتبقى أن مسألة الانتعاش الاقتصادي؛ سواء كان ذلك في البلد الواحد أو عبر البلدان غير متاح كليا ما دام قُصر النظر السياسي والجشع مهيمنيْن علي الساحة الدولية.
وفي تقرير لمعهد الفكر الاقتصادي الجديد "NET" -نُشر ومُوقعٌ من عدد من الاقتصاديين المشهورين؛ من ضمنهم: مايكل سبنيز الحاصل على نوبل في الاقتصاد، ودوني رودريك من جامعة هارفارد...وآخرون- يُتوقع أن تحتفل الولايات المتحدة في يوليو مع عيد الاستقلال بأن يكون اللقاح متاحا لجميع البالغين في أمريكا. غير أن الأمر سيكون مختلفا لمعظم الدول النامية والناشئة التي عليها أن تناضل من أجل الحصول على اللقاح؛ لذلك فإنَّ المعهد يقول في بيانه حول التحول الاقتصادي العالمي، ولتحقيق تعافٍ سريع للاقتصاد، فإنَّ ذلك يتطلب من كل دول العالم فرض السيطرة على هذا الوباء. وما يشهده فيروس كورونا من تحولات (السلالات المتحورة) يضع الجميع في خطر، خاصة إذا انتشر الفيروس في أي منطقة من العالم. لذلك؛ من المهم أن اللقاح ومعدات وأدوات التعقيم، والعلاجات، يجري توزيعها في كل أنحاء العالم وبالسرعة اللازمة، وإن أحد معوقات توزيع وتوفير اللقاح يتعلق حاليا بنظام الملكية الفكرية.
... إنَّ نظام الملكية الفكرية الحالي، الذي يمنح الحق في تحكم شركات الأدوية في سعر الأدوية، وعدم الترخيص للدول الأخرى بتصنيعها، عفا عليه الزمن، وما هو مطلوب حاليا بصورة مُلحَّة تعليق العمل بهذا النظام، خاصة فيما يتعلق بالأدوية والمعدات الخاصة بمكافحة "كوفيد 19". وهناك العديد من الدول والمؤسسات تطالب بذلك، إلا أن اللوبيات الخاصة بالشركات العالمية في الدول المتقدمة تقاوم ذلك، وحكومات الدول الغنية تتحالف مع هذه الشركات. وقصر النظر هذا أو ما يسمى بـ"وطنية الجائحة" أظهر أوجه قصور عديدة في نظام التجارة الدولية، وقوانين الاستثمار، وحقوق الملكية الفكرية.
لقد تحركت الإدارة الحالية في الولايات المتحدة الأمريكية بقوة لإعادة تنشيط اقتصادها، وقدمت الحوافز للأنشطة الاقتصادية المختلفة، خاصة للمنشآت المتضررة من الجائحة وللأسر أيضا، وتوصلوا إلى قناعة بأن سياسات التقشف غير مجدية في حالة الأزمات، إلا أن الدول النامية والناشئة تعاني من الحصول على التمويل الضروري لبرامج المساعدة، إضافة إلى الإنفاق الخاص بمحاربة الجائحة. وتظهر إحصائيات البنك الدولي أنَّ حصة الفرد الواحد من برامج التحفيز في الولايات المتحدة بلغت حوالي 17000 دولار، وهذا يفوق ما أنفقته الدول الأكثر فقرا بحوالي 8000 مرة!!
ويطرَح تقرير معهد الفكر الاقتصادي الجديد -في بيانه- 3 سياسات أو خطوات يعتقد أنَّ على الدول النامية والناشئة اتخاذها للمساعدة في التعافي الاقتصادي لبلدانهم. ولمساعدة الاقتصاد العالمي في النمو ينبغي ما يلي:
أولًا - العمل من أجل إصدار واسع من حقوق السحب الخاصة، والتي هي العملة الاحتياطية لصندوق النقد الدولي؛ لذلك يقترح المعهد أن يكون الإصدار في حدود 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة. وأن تقوم الدول الغنية بتحويل مخصصاتها من حقوق السحب الخاصة لصالح الدول الفقيرة.
ثانيًا - خُطوة تتعلق بصندوق النقد الدولي ودوره في تكييف السياسات الاقتصادية الكلية في الدول النامية، خاصة البلدان التي تطلب مساعدة الصندوق في تمويل الاختلالات في ميزان المدفوعات. ومن الأمور المشجعة حسب ما يذكر المعهد أن الصندوق أعرب حتى الآن عن تأييده للتوسع في الإنفاق في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأبدى نوعًا من التفهُّم لقيام الدول النامية بتوسيع انفاقها الحكومي رغم الوضع الخارجي الصعب.
غير أنَّ شروط القروض الممنوحة من قبل الصندوق للدول النامية التي تواجه مصاعب في ميزان مدفوعاتها لم تتغير، ولا تزال أفعال الصندوق غير متوافقة مع أقواله. فقد قامت "أوكسفام الدولية" بتحليل عدد من التسهيلات التي قدمها الصندوق من مارس إلى سبتمبر 2020، فوجد أن 76 من 91 قرضا قدمهم الصندوق إلى 81 بلدا، فرض الصندوق خفضا للإنفاق، والذي سيؤثر فعلا على إنفاق الحكومات على الصحة العامة، وقوانين التقاعد، وتجميد الرواتب للقطاع العام (بما فيها رواتب الأطباء، والممرضين، والمعلمين)، إضافة إلى خفض تأمينات البطالة، وأيام المرض، والمنافع الاجتماعية.
وسياسات التقشف هذه لا تُجدي نفعًا خلال الأزمات؛ سواء للدول النامية أو للدول الغنية؛ لذلك يعتقد التقرير أنَّ إصدار حقوق السحب الخاصة يمنح هذه البلدان حيزًا ماليًّا إضافيًّا.
ثالثًا - يدعو المعهد البلدان الغنية لطرح مبادرة شاملة لإعفاء الدول الفقيرة من الديون؛ فالأموال التي تُصرف لخدمة الدين، الأجدى لها أن تُصرف في سبيل القضاء على الوباء، وإعادة تنشيط الاقتصاد. ففي بداية الجائحة كان من المؤمل أن يكون إعفاء خدمة الدين للدول النامية كافيًا، لكن وبعد مرور عام على الجائحة، فإن بعض البلدان بحاجة إلى إعادة جدولة تامة لديونها، ويمكن للحكومات العمل مع الدائنين الخاصين سويا في مسالة إعادة الجدولة.
غير أنَّ بيان المعهد -وإنْ كان صدر عن حُسن نية- إلا أنَّه لا يخرج من باب التمنيات "Wishful Thinking"؛ حيث إنَّ أيَّ إصدار جديد لحقوق السحب الخاصة لا يمكن أن يحظى بالموافقة دون موافقة الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الغربيين، فلديهم أغلبية الأصوات في صندوق النقد الدولي. كما أنَّ أي إصدار جديد لا بُد من إجازته من قبل المشرِّعين في هذه البلدان، ومن السذاجة بمكان أن نرى البلدان التي تحتكر وتمنع وصول اللقاح إلى الدول النامية توافق على هذا الاقتراح. أيضا مسألة الإعفاء من الديون ستلقَى نفس المصير، خاصة في أجواء الاستقطاب الحاصل بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.
ومن ناحية أخرى، كتبت جياتا جوش المحاضِرة بجامعة ماستشوستس (آمهارست)، تقول: إنَّ شركات التصنيف العالمية الخاصة الثلاث: موديز، وستاندرد آند بورز، وفيتش، والتي تسيطر على 94% من سوق تصنيف القروض، وتتمتع بنفوذ كبير في تخصيص وتحديد المحافظ الاستثمارية في العالم. وتزعم جوش في مقال لها في "بروجكت سندكت" أن هذه المؤسسات تستخدم نفوذها في منع الدول النامية من التعافي الاقتصادي، وذلك بإصرارهم على أنَّ أي مباحثات حول إعادة الجدولة أو الإعفاء من القروض ستضر بالدول الدائنة، وبالتالي تطالب جوش -وهي مُحِقَّة في ذلك- بإنشاء وكالات تصنيف عامة للتغلب على هذا الاحتكار والتحيُّز الذي تبديه هذه الشركات ضد الدول النامية.
* باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية