الكاتب الأصيل

د. صالح الفهدي

رعى الله الكاتب الأصيل وهو يحمل على منكبيه همَّ الإصلاح؛ فلا يفتر مُفكراً، ولا يَهدأ مُتأملاً، وهو في ذلك كمن يمشي في بعض المواطن التي حشدتْ أرضها بالألغام؛ فيخشى وضع قدمه على أحدها، أو أنَّه يُحاذر أن يَطأ شوكا قد لا تبصره عيناه، إذ لا طريقَ مُعبَّدًا للكاتب الأصيل، فهو مُبتدع طريقه، مُختلق ممشاه، مُبتكر فكرته، قليلاً ما يجد المكافأة في الشكر، وكثيراً ما يجد اللوم ولا يحظى بالعذر!

أما من يشكره، فهو الذي يتمثل فيه نفسه، ويجد فيه فكره، ويستشعر فيه نفسه، وأما من يلومه ويقرعه فهو ذلك الذي يُريده على هواه، ويقوم على معناه، أنَّى ضل وتاه..! فكم يتحمل الكاتب الأصيل إنْ هو تَجَاسر في أمرٍ مَرارة العُتبى، وثقل التقريع، وكم حدَّثته نفسه: ما لك وهذا الذي أنت عليه من الهم الذي تكابده فتتلقى التقريع عليه إن أنت أقحمتَ نفسك في شأنٍ لا يرُوق لآخرين لهم سلطة عليك، ومكنة منك؟ ثم يأتي صوت آخر معارض يجاوب الأول: ألم أُخلَق من أجل أن أحمل؟ يراعي ليكون معولَ بناءٍ للأمم، ويكون عماد قوامٍ للقيم؟ وهكذا يمضى الكاتب في صراعٍ مع أفكاره، وتصوراته، ومعتقداته، بين مُقدِمٍ ومُحجِم، وجاسرٍ ودابر، لا تكاد تهدأ له خاطرة، ولا يخمد له أوار، يخوض الغمار تلو الغمار!

كل ما يحمله الكاتب الأصيل في نفسه صلاحُ مجتمعه، ونماؤه وتطوُّره، وتغيير عاداته المثبطة للتقدم، وأفكاره المعيقة للإبداع والابتكار، يريد لمجتمعه أن يرتقي بفكره، ويعتلي برؤاه، وينهض بقواه، يريد لأمته أنْ تسابق الأمم في نهضتها، وحراكها، وفاعليتها، يريد لشعبه أن يسقط عنه كل حمولةٍ تُثقل ظهره عن امتطاء الصعاب، ويدفَع عنه كل حجرٍ يعيق سيره الخفيف نحو المطامح العليا.

وهو مع هذا كله يتحمل ما لا يدركه غيره، لكنه -وهو الذي لا يسعى لثناءٍ أو تكريمٍ أو شكرٍ أو شهرةٍ أو مالٍ- يُسعده أنْ يرى التغيير نحو الأفضل في مجتمعه بإسهامٍ منه، فإن تواصل معه صانع قرارٍ فشكره على أفكاره، أو طلب مشورته، كان ذلك خيرَ تكريمٍ له، لأن كلمته قد لاقت صداها، وبلغت مداها.

رعى الله الكاتب الأصيل؛ فقد نَذَر حياته لكلمةٍ هادفةٍ، ورسالةٍ فاضلةٍ، وإصلاحٍ مستمر، فأشغله ذلك عن جمع المال، أو الاشتغال بالتجارة، أو تنويع عوائد دخله؛ فعقلُه لا يستوعب غير ما شغله من إصلاح،  في حين اتَّجه أصحابُه إلى ما عدَّد مصادر أموالهم، ونوَّع روافد تجارتهم، على أن ذلك بالنسبة إليه هو الغنى الحقيقي لأن أثره باقٍ، وشاهِده دائم، ورافده زاخر، على خلاف مالٍ أو تجارةٍ أو غيرها.

الكاتب الأصيل دائم البحث عن كل فكرةٍ لها نفع على مجتمعه، فيتفتِّش في باطن الكتب كالغواص الذي يفتش في باطن البحر، باحثاً عن أصداف الدُّرر ليقدمها هديةً إلى بني وطنه، ويستلهم من تجارب الآخرين لينقلها إلى مجتمعه لينتفع منها، فنماءُ وطنه هو أكبر قضيةٍ لديه، ورفاه مجتمعه هو أعظم شواغله، فهو مُحرِّك التغيير، وطاقة الدفع، ووقود الحراك.

رَعَى الله الكاتب الأصيل؛ فهو الغيور على ثقافة مجتمعه، المحافظ على هوية وطنه، فإن كان الجندي يترصد على الثغور يحمي الوطن من عدو غادرٍ، فإن الكاتب يحمي الوطن في الداخل من الأفكار السامة التي تتسلل إلى أوصال مجتمعه لتفتك به، ومن الفتن الهدامة التي تشعل النار بين مكوناته الاجتماعية، ومن المسالك الدنيئة التي ترمي إلى سحق كرامته، وهلاك أمته.

هذه هي حال الكاتب الأصيل، وهذا هو قدره المحتوم.. أعانه الله على ذلك.