آفات "التواصل الاجتماعي"

منصور القاسمي

"قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" (هود: 88).

قاطرة التحول والتطور النهضوي للمجتمعات والدول بالمستقبل ترتبط ارتباطا مباشرا بالحاضر الذي نحن فيه، ومدى تطور المجتمع بسلاح العلم والمعرفة، والدور الأمثل لصناعة وإعداد أجيال قادرة على المشاركه في البناء والتخطيط، واستقراء المستقبل، وصياغة مفاهيم وأبعاد وخطط رؤية "عُمان 2040".

لكن كيف لنا أن نصنع المستقبل في ظل شبح تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي؛ مثل: واتساب وفيسبوك وتويتر وانستجرام وسناب شات وتيك توك...وغيرها من البرامج في زماننا هذا.. إنها أسلحة خطيرة جدا لم نبالِ بصدها، بل تَسَايرنا معها، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا ويومياتنا، "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم" (يوسف: 53).  لقد انتشرت هذه الوسائل كانتشار النار في الهشيم، ودخلت دون استئذان كل بيت محصن واستهدفت الأجيال، وأصابت العقول وشلت الأفكار والعقائد، حتى نَزعَت لباس الحشمة والهيبة والوقار، ونشرت سموم مادتها على مجتمعاتنا المحافظة بقيمها وعاداتها ومبادئها وسماحتها وطيبتها، فجرفَت الكثيرين إلى الهاوية، ورسمت لنا المستقبل العنكبوتي الهش. هذه الوسائل بلا شك سلاحٌ ذو حدين؛ الحد الأول سلاح المعرفة والمطالعة والتقارب الفكري والمعلومات.. عالم يبني ويتقدم لصناعة المستقبل الباهر، وقلما نتخذه أو نسلكه لثقل وعظم مسؤولياته، وعدم تحملنا مسؤولية المستقبل دليل واضح على استقرار السموم في عقولنا، لنستقر بالحد الثاني من السلاح؛ وهو: سلاح حاد جارح لاذع فاضح، "مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون" (هود: 24).

أصبحنا على كف عفريت، انجرفنا "نحوه وإليه وفيه"، ففقدنا هُوية الماضي التليد من القوة والعزم والبناء والحضارة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ، وصنعنا الهوية المقلدة اللينة الضعيفة والهشة من خلال إعجابنا ومتابعتنا لشياطين الإنس والجن، وما نطلق عليهم اليوم بالمشاهير؛ شكلا وفكرا ومضمونا، "أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين" (التوبة: 109). لقد اختطلت الأوراق والمفاهيم والأشكال وأساسيات متطلبات حياتنا، تسببنا في جرف هؤلاء معنا إلى الهاوية المظلمة، حتى ظل يخرج إلينا في كل يوم شكل من الأشكال وفكر من الأفكار يتبعه ويهوي معه بل ويظل من يظل من البشر. شاركناهم بيوتنا وحياتنا ويومياتنا وتعاملنا معهم بشتى أنواع الطرق وصناعة ما لا يمكن صناعته أو صياغته؛ صناعة المادة الرخيصة وكسب المال والشهرة "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين" (هود: 6). ثم عرضت علينا المأكولات والمشروبات بأصنافها، والملابس والمحلات والطرب والسخرية والضحك على العقول، ونتغنى بالوطنية وحب الوطن، "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" (الكهف: 103)، ليخرج إلينا هذا يرقص وذاك يقلد، وتلك بمفاتنها تعرض الجمال، وذاك يعرض المنتجات، وهذان الزوجان يعرضان قصة حياتهما، وسخافات كثيرة.. فإلى أين نحن متجهون؟!

ما نعانيه هو بحد ذاته فقر مدقع في معرفة ما نحن فيه وإليه والمستقبل المجهول! نعيش فقط اليوم واللحظة، وللأسف نترقَّب الصدمة التي بعدها لا ينفع الصراخ ولا الندم ولا البكاء على الماء المسكوب، "والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" (يونس: 25).

للأسف، سقطت الأقنعة، تأخرنا كثيرا عن ركب الدول المتقدمة في صناعة أوطانها والمحافظة على شعوبها، وتبادلنا أحاديثنا اليومية في صناعة المشاهير بمختلف الوسائل والأوقات حتى في أوقات العمل والإنتاج والراحة، لا نلوم أحدا ولا شكلا ولا جنسا، بل اللوم وكل اللوم يقع على عاتقنا نحن أنفسنا لأننا السبب في صناعة هؤلاء، وهؤلاء كان عنه مسؤولا بضياع المستقبل، كيف سنصنع أجيالنا في هذا العالم؟ كيف نؤهل عالمنا وعلماءنا المبدعين والمفكرين وعصب التنمية ونحن نعيش ونستمر في هذا الواقع الأليم وهوس سخافاته وضعف مواده وأبعاده؟ "أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين" (التوبة: 109).

أصبَح لِزَاما علينا أنْ نضع حدا لا يقطع الشك باليقين لهذه المهزلة والسقوط الممنهج لأجيالنا في فخ هذه الوسائل، وما نطالبه هنا هو فرض الرقابة وسن القوانين الصارمة التي تحد من الإسهاب في استخدام هذه الأسلحة ونشر سموم موادها وأفكارها التي تؤثر سلبا على الفرد والمجتمع والأمن والأمان والعزة والاستقرار، قوانين عليها أن تحدِث تغييرًا جذريًّا لا يُبقي إلا على الثوابت والمعايير الاجتماعية الأصيلة لبلادنا العزيزة بعاداتها ومبادئها وسماحتها وطيبتها وهويتها.

أين المشاهير اليوم من صناعة المستقبل المشرق وقيم الإرادة والإدارة التي تنهض بالمجتمع لتحقيق رؤية "عمان 2040" وتعزيز الأجيال القادمة بسلاح العلم والمعرفة والابتكار والتطور؟ أم نكتفي بصناعة البرجر والمشاكيك والكب كيك والملابس والحلويات، ونشاهد العالم حولنا يتطور ونحن بدموعنا الحزينة نصفق لهم.

"تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون" (البقرة: 134).

تعليق عبر الفيس بوك