عبد الله العليان
تعرَّفتُ على كتابات الأكاديمي والروائي المغربي د. حسن أوريد، من خلال كتاباته في بعض الصحف العربية المهاجرة، وكانت اهتماماته بقضايا الأمة تأخذ الأولوية في هذه المقالات، وأول المؤلفات التي قرأتها للدكتور أوريد سيرته الروائية الشهيرة "رواء مكة"، في طبعتها الخامسة، ثم اقتنيتُ بعد ذلك كتابه الآخر الحديث "أفول الغرب" الذي كُتب بالفرنسية، ثم بالعربية وهو الكتاب الناقد للغرب، بين الكلام النظري عن المبادئ، وبين السلوك والممارسات في قضايا تمس حقوق الإنسان والحريات، التي لطالما شن الحروب من أجلها!
لكن تظل "رواء مكة" البوح الشجاع له، وفيها أبدع فيها حسن أوريد أيما إبداع في تصوير سيرته الذاتية ثم رحلته إلى مكة، بما صاحبها من آراء صريحة عن حياته السابقة، وسبب التغيير الذي جرى له بعد مرضه، وقرأت الرواية عدة مرات، فقد كان أسلوبه رائعاً في سرد سيرته بالطريقة الروائية، سواء في لغته العربية أو في السبك الروائي المتماسك، وما تضمنته عن ذكرياته الجميلة منذ طفولته.
الذي أود استخلاصه من هذه السيرة الروائية، أن الرجل تغّير فكريا، وهذا "عود على بدء" كما يقال في الأمثال، فهو من عائلة متدينة، وتربَّى على سماع القرآن الكريم والتراتيل الأخرى الدينية، ومثل هذا حدث مع الكثيرين من المفكرين والكتاب في سنواتهم المتأخرة، وتحدثوا عنها وعُرف عنهم هذا التحول وأعرف أحد اليساريين في بلادنا عاش تجربة فكرية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات مع الفكر الماركسي، لكنَّه منذ عقود تجده من أوائل من يتواجدون في صلاة الفجر مع وصول المؤذن!
ومنذ عدة أيام، سمعتُ عبر "يوتيوب" أحد الحوارات التليفزيونية مع د. حسن أوريد، حول رؤيته الفكرية والثقافية في عدة قضايا، وقد لفت انتباهي إجاباته ببرنامج: "حوارات هشام" بالمغرب، ويحتاج إلى حوار حول ما قاله. فجاء أولاً في رده على سؤال حول الحداثة في الواقع العربي/الإسلامي، أنَّ الحداثة لم تلق قبولاً في الواقع العربي، أو كما سماه بـ"عسر الهضم"، وهو عدم قبول الحداثة، لكنَّني أختلفُ مع د. أوريد في أنَّ الأمر لم يكُن هكذا دون مبررات، ذلك أنَّ الغرب نفسه أعاق الحداثة والتحديث، مع تجربة محمد علي في مصر؛ لأن الغرب يريد لنا أن نكون تابعين له فكرياً تحت ستار الحداثة، وأن نكون مستعمرين وغير متمايزين عنه فكراً وثقافة، أو التفاعل معه لإنجاز حداثة تنطلق من قيم الأمة وسبل عيشها. ومن هذه المنطلقات جاء "عسر الهضم" لهذه الحداثة في الجانب الفكري وليس التقني والمنهجي؛ فالغرب يريد لنا "الاتباع" وليس الإبداع. وفي إجابته عن سؤال العلمانية، أو ما تم للكنيسة المسيحية، وقياس ذلك على الإسلام، قال أوريد ما خلاصته: "كان الحاكم في أوروبا يستمد شرعيته من الحق الإلهي، ثم جاء عصر الأنوار، فجعل الشرعية تستمد من الشعب". وأضاف: "لن نكون نحن استثناءً، لتستمد الشرعية من الشعب، وقد ارتكبت مجازر باسم الدين وباسم الكنيسة، لا بد من شيء شبيه لذلك الذي وقع في عصر الأنوار، لا بد للدين أن يصير شأنا شخصياً". والحقيقة أنني أستغرب ما قاسه د. أوريد على ما جرى للكنيسة ليجري على الإسلام، مع الاختلاف الشاسع بين الإسلام والمسيحية، وهذا مما يعرفه أوريد من أن فكرة الحق الإلهي غير موجودة في الإسلام، كما في المسيحية، ولم تُرتكب مجازر باسم هذا الحق، فلماذا يريد الأستاذ الكريم، أن ما جرى للكنيسة، يتم تطبيقه في الإسلام؟!
الواقع أن هذه المقايسة عبارة عن استنتاجات غير دقيقة، وقد سبق وكتبتُ قبل سنوات في هذا الأمر، وقلت: إن العلمانية قضية غربية لمشكلة تقع في صميم الفكر الغربي المسيحي وظروف تدخلها في غير اختصاصها؛ فكانت الثورة على الكنيسة وتحجيم دورها، الذي كان سلبياً ومناقضاً للعلم والتقدم. كما أن العلمانية مسألة لصيقة بالديانة المسيحية، وليست من اختراع عصر الأنوار، ومقولة: "دع ما لله لله وما لقيصر ليقصر"، تُبرز أن الكنسية خرجت عن مسارها الصحيح وتمَّ ما تم لها. ثم إنَّ د. حسن أوريد خالف عندما قال: "لا بد أن يكون الدين شأنا شخصيًّا"؛ ففي كتابه "رواء مكة" قال في صفحة 48: "الإسلام تزكية، وتربية للنفس في أي مضمار تخوضه.. تزكية لها في كل أوجه حياتها، بما في ذلك ما يهم شؤون الناس وقضاياهم، ولو فصلنا الإسلام عن قضايا الناس لأصبح طقوساً بلا معنى ولأضحى رهبنة"!
وفي كتاب أوريد "أفول الغرب"، قال عن المقاربة العلمانية للمسيحية، في صفحة 192 :"لم تتستر فرنسا العلمانية عن عمقها المسيحي، وقد كان يتخذ في عدة أنحاء بُعداً صليبيا". وهذا قاله أحد الكتاب الغربيين؛ فمنذ عدة أسابيع صدر كتاب مترجم عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يحمل عنوان "تاريخ موجز للعلمانية" للمؤلف جرايم سميث، يؤكد فيه أنَّ "الفكر العلماني يعتمد بشدة على الافتراضات المسيحية، إلى درجة لا يمكن معها استيعاب الأخلاق الليبرالية والأخلاق الغربية الحديثة إلا باعتبارها إرثاً مسيحيا.. العلمانية لا تمثل نهاية المسيحية ولا تدل على إلحاد الغرب؛ بل يجب النظر إليها باعتبارها التعبير الأحدث عن الديانة المسيحية".
إذن؛ العلمنة ليست بعيدة عن الإرث المسيحي، وهذا حقهم في ذلك؛ فلماذا يراد لنا أن نكون نسخة منهم؟ ثم إنَّ المؤسسات الدينية في البلاد الإسلامية تديرها الدولة، وإذا كان ذلك يمثل بعداً سياسيا -كما أشار أوريد- فإن الدولة بيدها الحل والربط في هذا الدين، وتتكلم باسمه، فقضية الفصل بيد المؤسسة المدنية وليس بغيرها.
لكن من الإنصاف أن د. أوريد قال في هذا الحديث كلاماً منصفاً وصادقاً في قضايا فكرية وسياسية عديدة، وهذا بحق يستحق التقدير؛ فالأمة بحاجة إلى كلمة حق تخلصها من أزمتها الراهنة دون أي تزييف أو تحريف.