الطبيب الإنسان

 

عبدالله الفارسي

 

"أجمل العيش هو حين تعيش من أجل الآخرين".

*****

ذات نهار، أخبرني أحد الأصدقاء أن ابن عم له تم تحويله من مستشفى مدينتنا البائس إلى مستشفى محترم من مستشفيات مسقط العامرة، لعرضه على طبيب عماني استشاري كبير؛ فحدد موعد الدخول ومصافحة طبيبنا الإستشاري العظيم في شهر 2/2022.

يقول: خفت أن يموت ابن عمي حتى وصول موعد مصافحة الطبيب الاستشاري ورؤية وجهه الكريم، فأخذت أسأل وأتقصى عن هذا الاستشاري الضخم وكيف أصل إليه بأسرع وقت. فقالوا إنه يعمل ثلاثة أيام في مستشفى خاص، بإمكانك مقابلته ومصافحته في أي وقت تشاء، المهم لا تنسى "محفظتك" حين تزوره هناك، فأطباؤنا الكبار التجار متوافرون بكثرة في المستشفيات الخاصة أكثر من توافر سماسرة الأراضي والعقارات.

هذه القصة السخيفة ذكرتني بقصة عظيمة، قصة طبيب يمني رائع التقيته ذات صدفة في ماليزيا وأنا جالس في مقهى صغير أحتسي شاي (التتاريه) الماليزي المميز، جالسا منتظرا وقوف المطر الذي يباغتك فجأة. ففي ماليزيا يباغتك الرذاذ والمطر فجأة، وهنا تباغتك القرارات فجأة، تستيقظ من نومك فجأة لتفتح هاتفك اللعين فتجد نفسك ضحية مع مئات ضحايا القرارت المباغتة!

ذات نهار كوالالمبوري باغتني المطر فجأة، فدخلت مقهى فرأيت وجها غريبا مضيئا جالسا بهدوء وشموخ، كان ذلك هو الطبيب اليمني الإنسان. كان مثلي دخل المقهى مضطرا منتظرا وقوف المطر، وانحباس الهطول.

شاب في الأربعين من العمر، ولكن حين تراه تتيقن بأنه ثابت في عمر الثلاثين، لم يتحرك عنه قيد أنملة.

كان أنيقا.. وسيما.. يحمل ملاحة كتلك التي يتميز بها أهالي شمال اليمن، وجهه مضيء ككتاب ثمين، جبهته عريضة ناصعة، كصفحة تاريخ مشرقة، عينيه كحلاوتين كعيني بلقيس ملكة سبأ.

تفاجأتُ به حين قال لي إنه يعمل هنا في ماليزيا، في قرية نائية، براتب بسيط جدا، قلت له: هذه إذن قصة تستحق الكتابة، فهات ما عندك أيها الصنعاني الوسيم. أخبرني قصتة العجيبة، لأنك حين تسافر فقط، تقرأ هذه القصص، وتصادف مثل هؤلاء البشر النادرين.. فالسفر كتاب مفتوح هو الذي يكشف لك هذه الجواهر الثمينة، ويسمح لك بأن ترى وتلمس هذه الدُّرر العظيمة. مثل هؤلاء لا تصادفهم في أروقة وغرفات المستشفيات الخاصة

مثل هؤلاء تراهم في مهابط الطائرات، وتصطدم بأكتافهم في محطات القطارات، وتتبادل معهم الحديث على موانئ الباخرات.

سأُخبركم قصة هذا الطبيب الإنسان، والذي علمني كيف يجب أن تكون الحياة، وكيف ينبغي أن تعاش.

قال لي إنه درس الطب في مصر، وحين تخرج، لم يعد إلى اليمن، وإنما تقدم بطلب إلى وزارة الصحة المصرية أن يعمل معهم مجانا بدون راتب، فحصل على الموافقة مباشرة، وفعلا تم إرساله إلى مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، حيث عمل هناك في قرية فقيرة كمعظم قرى مصر القديمة، تسمى كفر الحمام؛ حيث زاول بدايات مهنته، وعمل فيها سنتين، واكتسب من خلالهما خبرة كبيرة.

وتفاجأت حين قال لي بأنه غير متزوج، ولا يرغب فيه مطلقا؛ حيث قال ساخرا ضاحكا: لا أحب أقفاص الذهب ولا حصون الخشب.

شرح لي طبيعة حياته، وكيف فكر أن يعيشها؛ بل ويمارسها، كما كان قد خطط لها منذ كان طالبا في مرحلته الثانوية.. نظام حياة جميل، وغريب ورائع، نادرا ما تصادف شخصا يتحكم بحياته بهذه الشاكلة ويضبط إيقاعها بهذه الصورة.

قال لي إنه من عائلة ميسورة الحال، ليسوا أغنياء وليسوا فقراء لكنهم ميسورو الحال، كان والده وإخوته يعملون بالتجارة ويكسبون منها الشيء الذين يُؤمِّن لهم وأبناءهم حياة كريمة.

والمعروف تاريخيا أن التجارة لأهل اليمن، فهم أقدم التجار في العالم، لذلك، كان صاحبي الطبيب طليقا، يعيش حياته بطريقته الخاصة، ويطير بجناحين خفيفين حيثما يشاء فلا أحد ينتظر منه درهما ولا دينارا.

وبعد أن قضى سنتين في مصر، قرر الذهاب إلى الإمارات، قال: كنت بحاجة إلى مقدار من المال يعينني في رحلتي القادمة، لذلك حصلت على عقد لمدة ثلاث سنوات في إمارة الشارقة، فقلت له: يعني أنت ذهبت إلى الإمارات للعمل لأجل توفير مبلغ تستطيع الهروب به إلى دولة أخرى؟ فقال: نعم بالضبط، شيء عجيب فعلا.

أي تخطيط هذا؟! أي رجال هؤلاء تجمعنا بهم الصدفة أحيانا؟!

الرجل لم يكن يبحث عن المال، الرجل كان يبحث عن الحياة، يبحث عن الناس، يبحث عن المتعة في خدمة الناس، كل الناس دون استثناء. التحق بمنظمة أطباء بلا حدود فور تخرجه في كلية الطب، فحمل حقيبته وسماعته الطبية إلى مختلف البلدان التي تعاني وتتألم وتتوجع.

بعد سنتين فقط في إمارة الشارقة، ولم يكمل سنته الثالثة حسب العقد، طار من الشارقة إلى فيتنام، بعد أن ذهب إلى صنعاء لأيام معدودة، يعانق فيها أهله، ويطفئ شوقه ويودعهم من جديد.

الوجهة كانت فيتنام؛ حيث نزل في مطار هانوي الجميل الذي يُطلق عليه مطار "نوي باي"، وقضى ليلتين مريحتين في فندق جميل، وذهب إلى وزارة الصحة الفيتنامية، وطلب منهم التبرع بعمل طبيب في أي منطقة أو قرية بحاجة ماسة إلى طبيب كما فعل في مصر، وقال لهم كما قال للمصريين: مجانا وبدون راتب، فوافقت إدارة الصحة الفتنامية مباشرة، وتم توزيعه إلى جنوب فيتنام، ليؤدي خدمته الإنسانية لسبع قرى كاملة هناك، ويعيش في غرفة صغيرة حقيرة، خلف عيادة صحية بسيطة تتكون من غرفتين وصالة، ولديه ممرضة واحدة،

ومساعد ممرض.

عاش في فيتنام سنتين كاملتين، استمتع بالحياة وسط قلوب فقراء لا يملكون من حطام الدنيا سوى سواعدهم النحيلة، يأكلون منها ويشربون، وابتساماتهم الصادقة لا تفارق وجوههم. ولو تعطلت تلك السواعد والأيادي ليوم واحد أو ليومين أو ثلاث ربما يموتون جوعا، ومع ذلك كانت البسمة تملأ وجوههم وهم في أشد لحظات المرض ألما، وأشد أوضاع الحياة فاقة وبؤسا.

غادر صديقي الصنعاني من فيتنام، وهذه المرة اتجه إلى القارة الأوروبية، إلى ألبانيا، إلى دول البحر الأسود،

نزل مطار العاصمة الألبانية تيرانا، وفعل كما فعل في فيتنام، وأُرسِل إلى شمال ألبانيا، قرية جبلية تكسوها الخضرة، وتتدفق الينابيع من تحتها أقدام ساكنيها، عانق الفقراء، واستمتَع بضحكاتهم الصادقة، ورعى أبقارهم، وشرب حليبها الطازج، وأكل من صحونهم البسيطة، ولامس شغاف قلوبهم الجميلة الباسمة.

بعد سنتين، طارَ من ألبانيا إلى جورجيا، ونزل مطار باطومي الدولي في العاصمة تبليسي الجميلة الفاتنة، ليقوم بمهامه الإنسانية الجميلة، ويخدم بشرا لا يعرفهم، ولكن قلبه كان متيمًا بحب كل البشر، الذين تربطهم معه علاقة الدم البشري الإنساني الواحد، عاش في قرية نهرية فقيرة في جورجيا تابعة لمدينة سوخومي، وهي من اكبر مدن جورجيا مساحة وسكانا. وقضى فيها سنتين كاملتين، دون أجر، وإنما حبا وعطاء، وكرما، وسخيمة نفس طاهرة، عظيمة، ونقية.

التقيته في ذلك النهار في كوالالمبور صُدفة، قادما لزيارة أحد أبناء عمومته، والذين يقيمون في ماليزيا منذ السبعينيات، قلت له: وأين الوجهة القادمة؟ فقال اليمن السعيد الحبيب، فقلت له: وبعد اليمن أين ستحمل سماعتك؟

ابتسم كملاك جميل، وقال: ربما جنوب السودان أو أفغانستان.

لا أعرف هل صديقي الطبيب اليمني الصنعاني الوسيم، ما زال في اليمن، يداوي الجراح العميقة، ويخرج الشظايا والرصاص من أجساد بني جلدته وأبناء وطنه، أم لم يحتمل منظر الدماء وتشوه الجثث وفداحة الواقع هناك؟ هل هرب من جحيم اليمن إلى تلال وجبال شرق أوروبا، إو الى انهار وجزر شرق آسيا؛ حيث أكواخ الفقراء وخيامهم المبللة بالمطر؟

فهذا الرجل كما رأيته وفهمته، لا يمكن أن يحتمل أن يعيش في مكان واحد أكثر من سنتين، حتى لو عاش في الجنة لن يحتمل أن يمكث فيها أكثر من سنتين، فجنته الحقيقية هي في مساعدة الناس والبحث عن موطن الآمهم، وتضميد جراحهم، وإطفاء أوجاعهم، واستخراج ابتساماتهم، وكسب رضا قلوبهم.

يُساورني الرعب والقلق عليه.. أخشى أن يكون صديقي الطبيب اليمني سقط ضحية صاروخ من صواريخ العبث أو قنبلة من قنابل الفوضى والقتل العربي المجاني.

أتمنى أن تكون حيًّا أيها الصنعاني العظيم، رغم يقيني بأن الشرفاء أمثالك لا يعيشون طويلا.

يا لك من طبيب إنسان تستحق أن تُرفع لك كل القبعات، في كل الموانئ والمطارات، حفظك الرحمن أينما تكون وحفظ الله اليمن الحبيب.