الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)
فوهة البندقية في منتصف صدرها الذي تتواصل خفقاته كطير وقع في الشرك، وخلفها ابنتاها تحتمينا بثوبها النيلي، كأنه حارس السماء له القدرة على ذود الشر ولن يطالهن الضر.
يتصبَّب جبينها عرقاً، وبرقع النيل يغطي جبهتها وخديها، ويكشف عن شفتيْن مُكتنزتين ترتعشان، ووشم أخضر ينتصف ذقنها، حدَّقت بالرجل ولم تجفل. حرك رأسه يميناً، وضاقت أحداقه، وأرهف السمع، لا صوت غير حفيف الشجر وزقزقة الطير وقلبٌ يرجف. طوَّقت أصابعها البندقية، وقالت بتردِّد -خشية أن يصدق حدسها: "أتلتغتوْن؟" (أي: هل سَتقْتُلنا)، يَأسٌ مُقرف تسلل إلى نفسها إنْ كان هذا هو قدرنا فلنعجل به. التفتَ الرجل إليها واتسعت عيناه ثم ضاقت، أشاح بصره وأبعد بندقيته، أخفض يديه وبقيت أكتافه مشدودة، لم يتوقف عن الالتفاف حوله. نطق بعد صمت شائك ومريب: "ال لوتغ اِينث لوْ" (بمعنى: لا أقتل النساء)، أطلقت زفرة اطمئنان لسماعها صك الحياة ينطق. فرت أسرابُ العصافير نحو السماء فَزِعة من دَويِّ بواريد هزَّت الشعاب وروعت ساكنيها من الإنس والجن. استنفرَ الشريد، ونظر بعجالة حوله، وضع البندقية حول كتفه، وأَلْقْى بمحفظة جلدية مُعلقة حول خصره لتستقر بين بعض الحجارة، وقفز في عين الماء. سبح في الماء إلى أن وصل أقواساً صخرية ترتفع فوق العين وتنتهي بركام صخري عظيم، تحسَّست يده النتوء وجدران الحجارة وعثر على ضالته المنشودة.. شِقٌّ طُولي ضيق تواريه تقوسات حجرية مُتعاقدة تتسع صعوداً. يمتد الشق بشكلٍ طولي يسمح للهارب بالوقوف ولا يمكِّنه من الجلوس.
أسرعت المرأة وانتزعت أغصاناً وارفه من إحدى الأشجار، وبدأت تنفض تراب الأرض تُطمر أيَّ أثر قد طُبِع على الأرض. دلفت المرأة إلى أحد الكهوف متوسطة المساحة ومدخل فاغر فاه، وفي المدخل انتصبت صخره ضخمة، أعدت الحجارة للموقد وبدأت بالانتظار. ظهر ثلاثة رجال بعد برهة والعرق تتفصد جباهم عرقاً وأنفاسهم تتسارع، سألها أحدهم عن رجلٍ طويل، كث الشعر، وعريض المنكبين، تُخالط بشرته صُفرة، نفت المرأة رُؤيته. سألها آخر ماذا تفعل بالوادي، فأخبرتهم أنها في رحله طويلة، وأن ابنها مرض فأثرت الاستراحة حتى يشفى، سألتهم ما خطبهم، بصق أحدهم أرضاً وشتم، وقال إنَّ الهارب قتل عريساً في حفل زفافه.
غادرَ الرجال وخلَّفوا الفزع والخوف خلفهم، أطبَق السُّكون بتلابيب الريبة، نظرت المرأة باتجاه عين الماء، خرج الشريد وقفز في الماء وعاد سابحاً إلى اليابسة. براثين الصمت حبست الهواء، وقف الشريد والماء يقطُر منه، تحسس موضع الحجر وأخرج محفظته الجلدية، أمسك بندقيته ودلف إلى الكهف، أشعل النار بالموقد وأخذ يقلب نفسه وألسنة اللهب ترتفع. انزوت المرأة مع أبنائها في زاوية لَمْ يَنْبَسْ أحدهم بِبِنْت شفة. اتَّقدت حرب النظرات الفضولية الهلعة والمتسائلة للشريد، يقابلها خمودٌ بركاني ثوري من الطريد.
تفحَّص الرجل محفظته وأخرج منها "فيجير" وهي أداة منحوتة من الخشب مُفرَّغة من الداخل، أسطوانية، ترتفع عند طرفها وتشكل دائرة مجوفة، حشا الفتحة بالتبغ وأشعل النار. أخذ يسحب نفسًا عميقًا بقوة وشراهة، الواحد تلو الآخر، بلا هوادة، وينفث دخاناً يختلط عبقُه الثقيل بالهواء، كأنها سُحب رمادية سرعان ما تتلاشى، قطع الصمت قائلاً: "لَتَغْ ايّْ، بَانَحِيّ بَاْ أَغَوهي" (أي: قتلوا أبي وأحرقوا أخواتي)، زفر ونفث التبغ، كان يقبض كفه بشدة ويطلقها ليخفي ارتعاشه، الغضب المشحون يعتمل بصدره يغلي دمه. اخترقت زفراته الحارقة جدران الكهف الصامتة، لقد ظلت حبيسة نيران القهر وحقٌ يُعميه الباطل، قُتل أبوه الشيخ الكبير الأعزل، وكُسِر فك زوجة أبيه، وأُحرق أخوته الأربعة أحياء في دهليز الغنم، لم يَكد أصغرهم يخطو خطوتين، وأكبرهم لم يبلغ الخامسة بعد.
أسند رأسه على جدار الكهف، وأطبق جفنيه بشدة.. لا تزال رائحة شواء أجسادهم تنخر عظامه وتنهش قلبه، نصال مَدْي صراخهم تقض مضجعه كل ليلة، سعير يحتدم خوالجه ينهشه إذا ما أطبق جفنيه. أصبَح يستفرغ إذا ما اشتمَّ شواءَ اللحم، الذي كان يتلذَّذ به يومًا، قُتلوا غيلةً وجبناً وفزعاً من غدٍ آتٍ. بعد ارتكاب أوَّل خطيئة، يصبح التوقُّف فضيلة لا يملكها الجاني، حرق الأطفال بناء على نصيحة أحد الجناة، حين قال جملته الشهيرة: "اَدُسَسَ شَّاَنُه، هَيِر عَقُر يَلُتَغْتون" (أي: إن كبرت الأفاعي قضت علينا).
صوت خشخشة وتكسر الحشائش المتيبِّسة.. شخصٌ ما يقترب، أصبح وقعُ الأقدام أوضح، وأثقل، فَزَّ الرجل خلف جدار الكهف الداخلي، احتضن بندقيته على صدره والفوهة نحو السقف، حبس أنفاسه، أضاق جفنيه بتربُّصٍ حذر، تقدَّمت المرأة إلى مُقدِّمة الكهف عاقدةً حاجبيها تعضُّ شفتيها: يا إلهي، من القادم؟!!