سلطانة القلوب

مدرين المكتومية

صُورة عبقريَّة مُفعَمَة بالحبِّ والحنان والدفء، تلك التي تُظهر السيدة الجليلة حرم جلالة السلطان المعظم -حفظها الله ورعاها- مع أحد الأطفال الأيتام المنتسبين لمركز رعاية الطفولة، والتي التُقطت في يوم الأم 21 مارس، ولا يُنازعني شك بأنَّ هذه الصورة تستحق أن تكون "صورة العام"، وأن تفوز بأسمى جائزة في مسابقات التصوير العالمية؛ لما تتميز به من روعة وجمال وإبداع، فضلا عن عفويتها وتلقائيتها؛ فالأم الحنون السيدة الجليلة سبقتها عاطفة الأم الجياشة تجاه هذا الطفل الذي يمثل مستقبل وطننا، وكذلك الحال بالنسبة للطفل، الذي لم يستطع السيطرة على إحساسه ومشاعره وافتقاده لأمه وأسرته، فوجد في "أم عُمان" الحضن الدافئ الحنون.

توقَّفتُ كثيرا عند تلك الزيارة الكريمة التي قامت بها السيدة الجليلة، سلطانة القلوب بجدارة، فكم من قلب جبرته السيدة الجليلة على مدار الأشهر الماضية، وكم من نفس دبت في داخلها مشاعر السعادة والفرحة؛ لأن السيدة الجليلة تفضلت وقدمت لها الدعم والمؤازرة، وكم من منطقة على تراب الوطن العزيز تباركت بزيارة من السيدة الجليلة، وكم وكم وكم...؟

الأم الرؤوم، السيدة الجليلة، قرَّرت في يوم الأم أن تكون أمًّا لكل أطفال عُمان، واختارت زيارة مركز رعاية الطفولة، لتقديم المثل والقدوة، هكذا يكون حنان الأم على أبنائها، فما بالنا بحنان الوطن على أبنائه الأوفياء البررة، الذين يبذلون الغالي والنفيس من أجل عمان وقائدها المفدى حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أيَّده الله وسدد على طريق الخير خطاه.

يوم الأم لدى الكثيرين أحد أكثر الأيام بهجة؛ فهو مُناسبة مُواتية للتعبير -ولو جزئيًّا- عن مكنون العواطف تجاه من حملت وأنجبت وأرضعت وربت وسهرت الليالي، وبكت عينيها في الفجر إما خوفًا على ابنها/ ابنتها أو بالتضرع والتقرب إلى الله علّه يستجب لدعواتها بصلاح الحال لفلذات أكبادها.

لكن في الجهة المقابلة، هناك البعض ممن فقدوا أمهاتهم يمر عليهم هذا اليوم بمشاعر الفقد والحنين واللهفة تجاه من فقدوها، إنَّهم لا يشترون هدايا يوم الأم، ولا يجدون من يحتفلون معهم بهذه المناسبة، لذلك كانت زيارة السيدة الجليلة لهم بمثابة الحضن الدافئ الذي يعوضهم عن الفقدان العظيم الذي يعانون منه.

رسائل عدة بعثت بها السيدة الجليلة عبر هذه الزيارة، بل وعبر كل زيارة تقوم بها، لكن أن تأتي رسالة مغلفة بالحب والحنان والرأفة، فهذا انعكاس لمدى النُّبل والسمو الأخلاقي.. الزيارة جعلتني أفكر في جانب آخر مرتبط بالأيتام، وهو كيف يُمكن لفائض الحنان لدى من لم يرزقها الله بالأطفال أن تهبه لمن فقده بفقدان أمه؟ أؤمن بحكمة الله في تحريم التبنِّي، لكن أتذكر كيف حث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على كفالة اليتيم، حتى قرنها بملازمة من يقوم بها للرسول في الجنة، وقال: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" وأشار بالسبابة والوسطى.

ومع اقتراب شهر رمضان المبارك، نحتاج للمدد الروحاني الذي يغسل قلوبنا التي أثقلتها الأفكار وهموم الحياة، كما أنه في شهر رمضان تحل مناسبة "يوم اليتيم الإسلامي"، والوقت مناسب من الآن لأن نفكر في طرق جديدة لإدخال البهجة إلى نفس كل يتيم، علينا أن نفكر في طرق تجعل من كفالة اليتيم نهجا قائما ومنتشرا حتى لا يعيش طفل دون أسرة، ويمكن لوزارة التنمية الاجتماعية والجهات المعنية أن تضع الضوابط والشروط اللازمة من أجل تحقيق ذلك.

... إنَّ زيارة السيدة الجليلة لمركز رعاية الأطفال، قد أدخلت البهجة إلى نفوس أطفاله، ومن هنا علينا أن ننتهز الفرصة لتكون هذه الزيارة مناسبة كفيلة بإسعاد الأيتام ليس فقط في يوم الأم أو في أي مناسبة، لكن دائما وأبدًا.. إنَّ هؤلاء الأيتام قُدِّر لهم أن يعيشوا الحياة محرومين من العيش في كنف أسرة تحتويهم بحب وتحتضنهم عند الألم.. قدرُهم أن يعيشوا في بيت واحد لكنهم غرباء فيه، فكل منهم يستيقظ ليرى غريبا آخر قد انضمَّ إليهم، إنهم أبناء القدر، يعيشون وسط أحلام كبيرة وأمنيات تلامس السماء، قد يتحقق البعض منها، وقد يظل الآخر حبيس الذاكرة! هؤلاء الأيتام، تخلت عنهم الحياة، وغيرت الظروف مساراتهم، ولربما أيضا هجرهم الأهل وتركوهم بعد رحيل آبائهم.

إنَّ السيدة الجليلة قدمت درسا في مفهوم "المعاملات" خاصة المعاملات الإنسانية؛ وأهمها أن الحب لا بُد أن يكون جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وانعكاسا لممارساتنا في كل شيء، فكل ما يُقدم بحب دائما ما يعود علينا بذات القدر من الحب. ونحن بحاجة لمثل هذه المفاهيم والقيم النبيلة في المجتمع، وأهمها الإحساس بالآخر، ونشر الابتسامة على الوجوه الحزينة.

"سلطانة القلوب" استطاعتْ أن تُدخِل السرور إلى قلوب أطفال ربما لم يشعروا يوما بحضن الأم، ولم يحتضنهم أحد بكل هذا الحب، ولم يُلامس قلوبهم وأحزانهم ووحدتهم أحد، لكنَّ السيدة الجليلة منحتهم الأمل في الحياة السعيدة، أبلغتهم بنظراتها الحانية أنَّ الحياة تمنح الإنسان بقدر ما تسلب منه؛ لذلك ستظل تلك الزيارة محفورة في قلوب هؤلاء الأطفال، الذين سيكبرون يوما ما وهم يردِّدون ويتذكرون تلك اللحظة بكل سعادة وفرح وفخر.