"أجينوزت[1]"

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)
"دِيش اتيجعر" انتبهي أن لا تسقطي، نظرت الصغرى إلى شقيقتها التي اعتلت شجرة الجميز البرية، وبيدها غصنٌ تضرب به جذع الشجرة الضخمة فتسقط ثمار "الحفال" (أي: التين البري)، بينما تقوم شقيقتها بجمع الثمار ما استطاع ثوبها أن يحمل وعيناها الضاحكتان تستبشران بالشبع. أمسكت الفتاة بكلتا يديها جذع الشجرة العريض بإحكام، بينما أرخت جسدها تحاول النزول بحذر من الشجرة والخوف من السقوط يتملكها، لم تشعر إلا بساعد يلف خصرها النحيل؛ لقد كانت أمها تحتضن خصرها وقالت: "أل شبطش" (أي: سأسندك)، وما إنْ استقرت قدماها أرضاً، حتى أعطتها أمها قربة الماء وأمرت ابنتيها بالتوقف عن المماطلة وتسلق الأشجار؛ فالدرب الطويلٌ اللامتناهي ينتظرهم. أخذت الكبرى القربة الخاوية وصُرتها على كتفها وأمسكت يد شقيقتها الصُغرى والتي قبضت بأسنانها طرف ثوبها النيلي والطرف الآخر بيدها اليُسرى حتى لا تفقد ثمارها الثمينة. أطلقت الفتاتان سيقانهما للريح وضفائرهما تتطاير مع الهواء باتجاه عين ماء التي تختبئ داخل الوادي، بينما الأم تمشي خلفهما وتراقب ابنتيها بحرص خشية أن تفقدهما، كانت تشد رباطاً حول ظهرها يلف ابنها الصغير وفوق رأسها صرتها الكبيرة وعصى غليظة تتكئ عليها وتهش بها غنيماتها.

توقَّفت الكبرى فجأة عن الركض، وشدت قبضتها على يد شقيقتها التي كادت تسقط أرضاً، تناثرت ثمار "الحفال"، واختلطت بالحصى، عقدت حاجبيها أسفا على ثمارها التي جاهدت لجمعها، رفعت رأسها إلى شقيقتها هنالك خطب ما. تحوَّل وجه شقيقتها إلى أصفر وأحداقها اتسعت، تتبعت نظراتها فإذا بالحصى الأبيض تغطيه حمرة، ورجلٌ نحيل يحمل بندقية في يده اليمنى وطفلٌ هزيلٌ جداً منتفخ البطن يجلس فوق صخرة والهدوء يعتلي وجهه الطويل الذابل، بينما جثت امرأة على ركبتيها  فوق حصى الوادي وضفائرها الطويلة السوداء حُلت وتناثرت عُقدها بعد انتظار مرير. كانت المرأة تُعفر رأسها بالتراب، تقبض بيدها حفنة تراب تطلقها إلى السماء وصوت نحيبها المتواصل لا يتوقف. كان عويلها وصراخها يخنق الوادي بكلمةٍ واحدة سامة "واهي واهي واهي[2]"، تطاير التراب وتمازجت حمرته مع سواد ضفائرها المتناثرة وراحة كفيها تضرب أفخاذها وجيبها وتلطم وجنتيها وتشد شعر رأسها. وضعت الأم كفها فوق كتفي ابنتيها وضمتهما إليها وهمست: "اتفرقن لوْ، ذين جينوزت " (لا تخفن، إنها جنازة).

قُتل رجل في الوادي، وفجعت زوجته بمقتله وطفل يُتم، إنها امرأة اعتلت ظهر الطوفان ولا تعلم عن ظلمة الأيام ولياليها، كمن حُمل على قاربٍ كاد ينقض وقذف في قلب إعصار وقيل له جدف للنجاة وهو لا يتقن التجديف ولا العوم.

لاذ الأطفال بظهر صخرة وذهبت الأم لتواسي امرأة أخرى ترمَّلت في مُقتبل عُمرها مثلها، احتضنتها بشدة وانتحبتا معا. وقف الرجل صامداً وجامداً، لا يُحرك ساكناً وشمس الظهيرة تلسع ظهره والشال يلتف حول كتفه و"المحفيف[3]" يلف شعره الأجعد متوسط الطول، ينجذب الذباب لرائحة الدماء المسفوكة فوق الحصى الأبيض. يحرك الرجل يده يبعد الذباب، وأجفانه ترف بخفة والقتيل جثتهُ مُسجاه فوق حجارة عريضة ملساء تظللها ركام ترابي ضخم.

"غدون، دَعَتْ شَنّْ شَفَق" (أي: هيا لنذهب ما دام معانا بصيص ضوء)، أخذت الأم امرأة الطوفان المكلومة معها وتوارتا عن الأنظار بين الصخور المنتشرة بالوادي، أما الرجل فقد فرش حصيرة من السعف تُستخدم لحفظ التمور على الأرض وحمل الجثة ووضعها في منتصف الحصيرة ومن ثم لفها وربط رأس الحصيرة ووسطها بحبل ولم تغطي أقدام الجثة، فظهرت ساقة الدقيقة الحنطية المشعرة. وضع الرجل القتيل فوق الجَمل وشدّ الحبل حول الجثة يوثقها فوق الراحلة ويتأكد من متانة الحبل وثباته، ملأ أحد الأوعية الجلدية بالماء وسكبه فوق الدماء العنيدة التي تلفظها بطن الأرض تأنف تقبلها.

عادت الامرأتان وقد حلقت الأرملة شعرها إيذانا بدخولها الحداد، اختفت جدائلها السوداء الطويلة المنثورة والملتفة. أصبح رأسها لامعاً أصلع وحول بطنها حبلٌ خشن ملتفٌ سبع مرات، وعقدت على كلا طرفيها الأيمن والأيسر عقدة تدلى منها طرف حبل كاد يصل للأرض ولا يلمسها. أشارت الأم لأبنتيها بالاقتراب وبدأن الاستعداد للرحيل. أخذ الرجل الصبي اليتيم من فوق الصخرة والإعياء قد غلبه، بطنه منتفخ بشكل غريب، ووجهه نحيف، وعيناه جاحظتان، وذقنه مُدبب، وعظام عموده الفقري البارزة كلها علامات تعب ومرض. وضع الرجلُ الصبي فوق الجمل وجثة أبيه الملفوفة بالحصير أمامه وقدماه تتدلى من تحت الحصير وقطرات الدماء تسقط فوق الحصى.

إرساءهمست الأم لامرأة الطوفان بأنه لا يجوز وضع اليتيم مع القتيل وهزت الأرملة رأسها بقوة علامة الرفض الشديد، فض الرجل أي نقاش مُحتملٍ بحزم قائلاً: "قَلِيعش، يعقر بيفطون" (أي: اتركيه، سيكبر ويتذكر)، غُرست بِذرة الثأر وسيحين حصادها بعد أمد. رفعت الأرملة رأسها الأصلع ووشم أخضر يزين ذقنها بخط طولي مستقيم، جمعت شفتيها بحزم وأشارت برأسها هيا بنا. انطلق الركب وخطام الجمل في يد والسلاح فوق كتف الرجل، والقتيل ودماؤه تقطر، واليتيم جاحظ العينين صامت، والأرملة تضرب ظهرها وجيبها بالحبال التي تتدلى من جنبيها وتصرخ: "واهي واهي واهي"، والأم وابنتاها يسحبن خطاهن بتثاقل خلف الجنازة.

[1] أجينزوت، تعني الجنازة

[2] واهي"، تستخدم للندب والعويل او الاستنكار

[3] المحفيف، هو رباط يوضع على رأس الرجل