الواقعية.. والفكر التنموي!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"أفضل طريقة لتتنبأ بمستقبلك، أن تصنعه" - ستيفن كوفي

*****

قبل سنوات، كنت في باريس وجلست مع أحد العرب من إحدى دول شمال إفريقيا، وحدثني عن أنه في "عاصمة النور" يمارس حياته كما يريد، لا أيديولوجيات، ولا تقديس لشخصيات، ولا مسموح وممنوع، الحياة بسيطة، ولا أحد يسألك من أنت، ومن أي قبيلة أو طائفة؛ بل يسألك عن عملك وإنتاجيتك، وكم تدفع للضريبة مقابل تعليم ممتاز ورعاية صحية متميزة وضمانات لمعيشة معقولة، لا يوجد هناك أي تضييق على الطائفة الفلانية أو الفئة العلانية، هناك لا أحد "فاضي" لهذه الأمور، الكل يعمل وينهمك بعمله؛ الدولة منظمة جدا، والقطاع الخاص قطاع خاص حقيقي ينتج ويقدم فرص عمل ويسهم في التنمية، وليس قطاعا خاملا يعتمد على دعم الدولة، ولا يقدم عشرة في المئة مما هو مطلوب منه منطقيا!

أتفكَّر في حال دولنا التي تُصنف كدول عالم ثالث؛ وهي في الحقيقة عالم عاشر؛ حيث إنها دول لا تقدم إضافة حقيقية للإنسانية، الكفاءات تحارب، ويُقرب الأجنبي (وياليت الأجنبي المقرب كُفأً!) لا توجد خطط تنموية حقيقية، لا عذر لنا أبدًا. في الحقيقة لا توجد دول غنية ودول فقيرة؛ إنما دول تقودها أنظمة كفوءة وتقدم الأفضل ولديها خطط واقعية وليست تليفزيونية، وترى المبدع يُدفع به للأمام، لا توجد واسطات ولا أوراق توصية ليقدَّم فاشل على ناجح، دول تكرم العلماء وتعطيهم القدر المناسب حتى يتفرغوا للعلم وتقديم الأفضل؛ فالرابح بالنهاية هو الشعب والدولة.

علينا إنْ وضعنا خططا أن نضع خططا واقعية معقولة مقدورًا على تنفيذها، لا يهم أن تكون على ورق لامع ومصقول؛ الأهم أن تنفذ بحرفية عبر كفاءات وطنية قادرة على تقديم الصورة المشرقة، ونثق بأبناء البلد وندعم الأفضل منهم، ونحاول ما استطعنا فتح الفرص للمبدعين في المشاريع الصناعية؛ لأن العالم الآن تهمه الصناعة، وتؤثر على الناتج القومي، بالإمكان جذب وعرض شراكات إستراتيجية مع كبرى الشركات العالمية في مجالات الطاقة والطاقة البديلة والإلكترونيات والزراعة وحتى مصانع قطع الغيار. لاحظ أنَّ دولا مثل بنجلادش وسيريلانكا وفيتنام هي دول عالم ثالث، الآن تتوجَّه إليها الكثير من الاستثمارات العالمية، حتى في قطاع الملابس الجاهزة من خلال الشركات التي تملك علامات تجارية شهيرة.

بالنهاية، لا يوجد مستحيل؛ بل توجد دولة لديها خطط حقيقية وتثق بقدراتها وتعمل وفق القدر المناسب لها وتتقدم رويدا رويدا، وتضع الأكفاء بالمقدمة وتدعمهم، ودولة مجرد دولة كرتونية وعبء على نفسها وعلى شعبها، وتجد أغلب شعبها يفكر بالهجرة!

التطوُّر المجتمعي يبدأ بنشر الوعي بأهمية وضع البلد في المقدمة، ليس مهما أن يكون لديك براميل نفط تغطي بها بنود الميزانية؛ بل الأهم تنويع الإيرادات التي تأتي عبر حلول معقولة وإبداعية، وليس عبر أسهل الحلول؛ كفرض ضرائب ليست في محلها ورسوم لخدمات سيئة؛ بل يبدأ الأمر بحلول واقعية، فما يصلح عند غيرنا، قد لا يصلح عندنا، والعكس صحيح؛ وذلك لرفع مستوى دخل الفرد، وهذا أهم عنصر، إلى جانب توفير فرص عمل مناسبة ومتاحة للجميع.. هنا تكون الدول قد وضعت الخطوة الأهم لبداية تنموية وحلول مستقبلية مستدامة؛ فالفرد الذي لا يملك دخلا معقولا سيكون عالة عليك، ولن تستفيد منه ولن يفيد نفسه!

يجب تحقيق معادلة الاستفادة الجماعية (الدولة/ الفرد/ المؤسسات)؛ وبحلول مناسبة وليست فقط للمؤتمرات الصحفية وفلاشات المصورين.

الدولة القوية شعبها مرفَّه بالقدر المعقول، وبها جامعات وتعليم أكاديمي مميز، وقطاعات صناعية وتجارية تُضيف للناتج القومي ولا تأخذ منه، وفيها اهتمام بالعلوم الإنسانية والآداب والفنون والرياضة، وتتاح الفرص المتساوية بها للجميع حتى يقوم الجميع بخدمة البلد وصنع الفارق، والأهم قبل ذلك الإيمان بقدراتنا وأننا لا نقل عن غيرنا !

ملاحظة أخيرة.. وهي ضرورة إبعاد أي فاسد ومحاربة الفساد محاربة حقيقية عبر أنظمة صارمة واضحة تراعى، وتكون للجميع وليست على الجميع، لا يوجد فيها تلاعب أو استثتاءات إلا بأدنى الأحوال وبقدر معقول؛ لأنه ثَبُت أن أغلب الفساد يقتات على الاستثناءات التي يوقعها القيادي الفلاني ويمررها القيادي العلاني!