"الدينوقراطية" وجه جديد للثيوقراطية

فوزي عمار *

أبسط تعريفات الديمقراطية هي حكم الشعب، وهي غاية لم تُحدَّد لها أهداف وآليات واحدة؛ فكل أمة لها تجربتها في تحقيق الديمقراطية من الملكية الدستورية إلى الجمهورية الرئاسية إلى الجمهورية البرلمانية إلى التجربة اليتيمة "الجماهيرية" في ليبيا إبان عهد معمر القذافي.

المُشكِل ليس في الغايات النبيلة، ولكن في الآليات التي تختلف من بلد لآخر ومن مفهوم لآخر. فقد طغت الأدلجة على المفهوم وهي فهم واحد وحيد للنص وغيره يجرم ويحرم. ومن المعلوم أن الأيديولوجيا لا تنتج خطابا مضادًا لها؛ بل تعادِ وتحرم أي اختلاف وهي عبارة عن الإيمان المطلق والمسبق قبل تحقيق النتائج.

كان آخر مظاهر الأدلجة في مفهوم الديمقراطية تلبيس الدين على السياسات، وما شابه من فظائع وجرائم تصل إلى القتل والسحل لكل من يختلف مع معتنق مفهوم الدينوقراطية.

فـ"الدينوقراطية" صورة جديدة من صور الثيوقراطية وحكم رجال الدين، التي كانت تكفِّر الديمقراطية المتعارف عليها في العالم، وأصبحت الدينوقراطية تقبل بالانتخابات لمرة واحدة عند وصولها للسلطة فقط!

تاريخيًّا.. بدأت الثيوقراطية مع حكم الكنيسة وتحالفها مع الإقطاع قبل الثورة الفرنسية التي قطعت مع الدينوقراطية. والدينوقراطية الآن عندنا علي شكل جماعات وأحزاب إسلاموية تختلف في حدتها من واحد إلى سبعة على مقياس ريختر؛ فمن الأحزاب الدينية في عدد من الدول في تركيا والمغرب، إلى إخوان مصر وليبيا، إلى تنظيم داعش في سوريا والعراق.

إنها أدلجة متطرفة وفهم خاطئ للدين؛ وهي خروج عن النص الديني الذي يقول صراحة "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، و"لست عليهم بمسيطر"...إلخ.

بل إنَّه لا معني للإيمان إذا انتفت حرية الاختيار وأصبحت ملزمة بالقوة، فتصبح نوعا من النفاق والرياء  ولسان حالهم يقول: "إنا معكم إنما نحن مستهزئون".

... إنَّ خطورة الدينوقراطية تتمثل في تحالف فقهاء الخطاب الدينوقراطي مع مريديهم من أنصاف المتعلمين؛ فالذي قتل المفكر فرج فودة كان ميكانيكيًّا، وعندما سأله القاضي: لماذا قتلته؟ أجاب: لأنه علماني، فرد القاضي: يعني إيه علماني؟ أجاب الشاب ببساطة: لا أعلم!!

ومن طعن الكاتب الكبير نجيب محفوظ بالسكين شاب بسيط لم يقرأ رواية "أولاد حارتنا" التي كفَّروه بسببها!

والذين اغتالوا الرئيس المصري محمد أنور السادات بسبب فتوى تكفيره، تراجعوا عنها بعد قتله بسنوات!!

والجماعة الليبية المقاتلة والإخوان تصالحوا مع النظام الليبي وأصدروا كتاب المراجعات "الدراسات التصحيحية" بعد سنوات من القتل والقتال. كما أنَّ الذين مارسوا القتل باسم الدين في الجزائر في "العشرية السوداء" تراجعوا وتصالحوا مع الحكومة في مشروع  الوئام المدني الذي قدمه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقه.

لكن السؤال: من يعوض الذين ماتوا على يد هؤلاء؟!

وفكر ابن تيمية الذي كفَّر المسلمين بعد تقسيم التوحيد إلى توحيد ربوبية، وتوحيد ألوهية، وتوحيد الصفات؛ وهي فكرة تكفِّر المسلم وتصفه بأنه موحد ربوبية فقط. الفكرة كانت خطيرة ولا يعلم كثيرون أن ابن تيمية نفسه تراجع عنها في آخر أيامه بعد انتقاده من قبل كثيرين حوله.

إذن؛ الدينوقراطية هي وسيلة للوصول للسلطة والحكم باستعمال الديمقراطية لمرة واحدة والحكم باسم الدين وتلبيس المقدس -وهو الدين- على المدنس -وهو السياسة. تلك هي خطورة الدينوقراطية التي ابتليت بها مجتمعاتنا المعاصرة ودولنا، وكانت سببا في تخلفنا لعقود.. وما زالت للأسف.

* كاتب ليبي