رانجستين ديسيل

عبدالله الفارسي

 

"الأخلاق قلب الأديان" - كونفشيوس

-----------

رانجستين ديسيل ليس اسم الفيروس المتطور من كورونا، كما أنه ليس اسما لطاغية من طغاة العالم، وحتما هو ليس ممثلا أمريكيا هوليووديا لامعا، وهو ليس قائد الجيش البورمي الذي أطاح بسان شو تشي زعيمة بورما التي كانت تصخك وتأكل الفستق حين كانت جماعتها البوذية تحرق بيوت مسلمي الروهينجا بمن فيها، وبالتأكيد رانجستين ديسيل ليس راقصا فرنسيا يهز وسطه في مسرح تياتر دو لافيل، وليس باحثا دبلوماسيا في مركز بليفر للشؤون الدولية التابع لمدرسة كينيدي في جامعة هارفارد.

رانجستين ديسيل ليس نجما من نجوم كرة القدم، كما أنه ليس صرصارا عظيما من صراصير السوشيال ميديا، كما أنه ليس حثالة من حثالات التواصل الاجتماعي، رانجستين ديسيل هو معلم بسيط من قرية هندية فقيرة، لكن ليس مجرد معلم، هو في الحقيقة أفضل معلم في العالم!

حدثتكم في أحد مقالاتي الماضية عن القوة والتحدي ومواجهة لعنات الحياة وقسوة البشر والقدرة على الالتحام بعد التكسر، والتمكن من الالتئام بعد التشظي، في شخصية المرأة البنغالية كريشجانا التي قتلت عشرات المرات، لكنها بعد كل موت كانت تنهض، وبعد كل احتراق ورماد كانت تحلق كالنعقاء، وهي من ضحك في نهاية الطريق وتقلدت السعادة وامتطت الحبور.

اليوم.. سأدردش معكم عن الإخلاص المتناهي، والحب والإيثار والوفاء اللامحدود.. سأدردش معكم عن معلم هندي فقير، يملك قلبا عظيما وروحا شاسعة كونية نقية. هذا المعلم يدعي رانجستين ديسيل، فاز هذا المعلم بلقب أفضل معلم للعام المنصرم 2020 في مسابقة عالمية تشرف عليها اليونسكو، وتدعمها شركات ومؤسسات عالمية كبرى ومقدار جائزتها مليون دولار أمريكي.

وصل رانجستين ديسيل إلى المرحلة الأخيرة في مسابقة أفضل معلم في العالم مع تسعة مرشحين آخرين من مختلف بلدان العالم، لكنه تم اختياره هو كأفضل معلم في العالم لهذا العام بكل جدارة واستحقاق.

ليس هنا الروعة والجمال في الموضوع، الروعة والإبهار كانت في موقف هذا المعلم الهندي النادر، والذي ضرب لنا مثلا عجيبا ونادرا يُحتذى في السخاء والحب والإيثار والكرم ونقاء الروح تجاوز الكرم والسخاء العربي الذي قرأته في كتب التاريخ العربي البالية، فهذا المعلم الفقير ضرب لنا مثلا في العطاء والعظمة والارتفاع والسمو.

ماذا فعلت يا رانجستين ديسيل الرائع؟!

حين سمع ديسيل بخبر فوزه بجائزة (أفضل معلم في العالم)، قرر فورا وعلى الهواء مباشرة ودون تردد أن يمنح نصف الجائزة إلى التسعة الآخرين الذين تنافسوا معه على المركز الأول.

لقد قرر ديسيل أن يعطيهم نصف الجائزة (نصف مليون دولار)، واحتفظ هو بالنصف الآخر، وحين سئل: لماذا فعلت ذلك؟ قال: إنهم يستحقون وربما يكونون أفضل مني، لكن الحظ هو فقط من وقف بجانبي.

انظر إلى هؤلاء البشر، تأمل قلوبهم، ركز على أرواحهم، إنَّها قلوب كالقطن وأرواح كالحرير؛ أي قلب يملكه المعلم رانجستين ديسيل الهندي الفقير البسيط!!

لكن لو تتبعت سيرة حياة هذا الرجل الفقير العملاق فلن تندهش بأن يتبرع بنصف جائزته (نصف مليون دولار) لمنافسيه في المسابقة.

هذا المعلم الذي هنَّأه الدالاي لاما قائلا له: "أنت مثالٌ يُحتذى في التعاطف والحب يا رانجستين، أنت رائع بكل معنى الكلمة".

تنافس رانجستين ديسيل على الجائزة المقدّمة من مؤسسة "فاركي"، بالتعاون مع اليونسكو، للاحتفال بالمعلمين المتميزين الذين قاموا بأعمال بارزة وجهود متميزة في مجال مهنة التعليم: مهنة البناء والعطاء والإخلاص والوفاء. لقد حصل ديسيل على الجائزة بجدارة واستحقاق؛ نظرا لسيرته النظيفة الناصعة وأنشطته الإنسانية التعليمية الرائعة في مواجهة كلِّ من يعترض على تعليم الفتيات في مدرسته وفي منطقته وفي الهند بأكملها.

ولا تعتقدوا بأن هذا المعلم قد حصل على هذا الفوز عبثا أو تزكية أو مجاملة، لقد كان انتصاره استثنايا وفوزه عالميا؛ فالمنافسة كانت على مستوى العالم وكانت منافسة صعبة جدا وحامية الوطيس. كان هناك 12 ألف معلم مرشح من 140 دولة، لكن فاز رانجستين ديسيل الشاب ذو الثانية والثلاثين عاما بكل جدارة وتمكن.

علما بأنَّ رانجستين لا يعمل في مدرسة ضخمة أو مشهورة في دلهي أو في بومباي أو كالكوتا أو بنجلور أو كبريات المدن الهندية، لا أبدا، كان رانجستين يعمل معلما في مدرسة ابتدائية في قرية باريتوادي في ولاية ماهاتشترا؛ حيث الأعراف القبلية المعقدة هي المسيطرة على ثقافة تلك المجتمعات القبلية هناك، لذلك كانت مهمة رانجستين التعليمية والتوعوية جسيمة ومضنية.

ونظرا لأن الهند هي أكثر دولة في العالم متعددة اللغات والأديان؛ حيث تتجاوز لغاتها 600 لغة، كان رانجستين لا يجيد لغة تلك القرى التي تحيط بالمدرسة التي يعمل فيها، ولكن إصراره وتفانيه وحبه لوطنه وشغفه بحب المجتمع مكَّنه من تعلّم لغتهم واستيعابها، حتى استطاع أن يُترجم الكتب المدرسية الرسمية إلى لغة أهل القرية، مُستخدما الحاسوب بمهارة فائقة، عارضا كل دروسه ومحاضراته عبر الإنترنت، مخترعا طريقة فريدة وبرنامجا تعليميا إلكترونيا عالميا لتوصيل شرحه ومعلوماته لكل شرائح وفئات المجتمع؛ حيث انتشرت طريقته في الفضاء الإلكتروني عبر الهند وعبر العالم، ضاربا أروع الأمثلة في التفاني والشغف والإخلاص في العمل التعليمي التربوي، سالكا منهجا تربويا فاعلا وفلسفة تعليمية ناجعة أدت لانتشار تسجيلاته التعليمية في أكثر من 30 دولة، مُكثِّفا جهوده ليل نهار على تعليم الفتيات الفقيرات في كثير من القرى الهندية الفقيرة وتثقيفهن كونهن أمهات المستقبل.

وفعلا.. أسهم رانجستين خلال 5 سنوات فقط في تراجع ظاهرة تزويج القاصرات في عدة ولايات هندية بشكل لافت؛ وذلك بسبب مساهمته ودوره في تمكين الفتيات من تلقي العلم والمعرفة وتحفيزهن على مواصلة تعليمهن وشق طريقهن في الحياة.

وقد أكَّد ديسيل أنَّ الشغف والإخلاص والحب لمهنته هو السبب الرئيس في نجاحه في مهنته وفوزه بالجائزة.

وصرح قائلا بأنَّه يتسلم هذه الجائزة "نيابة عن كل المعلمين المخلصين في هذا العالم"، وأن التكنولوجيا الحديثة وسيلة فاعلة ومبهرة لتثقيف العالم وتنويره وتبديد الظلام الذي يسوده.

 وفي حفل افتراضي أقيم في لندن؛ حيث تم إعلان النتائج ظهر ديسيل سعيدا مبتهجا؛ حيث صرح بأن هناك آلاف المعلمين من الذين يعملون بصمت وجهد في هذه الأوقات المخيفة والمزعجة بسبب تفشّي فيروس كورونا يستحقون الشكر والتقدير والثناء، وأنَّ المعلمين هم الجنود المجهولون في هذا العالم. وقال إن التعليم هو الطريق الوحيد لنجاحنا وانتصارنا على كل مشاكلنا في هذا الكوكب. وفي ختام كلمته، أبهر ديسيل الجميع حين أعلن عن رغبته التنازل عن نصف الجائزة ليتم توزيعها على المعلمين المرشحين التسعة الذين وصلوا معه إلى المرحلة النهائية؛ حيث حصل كل واحدٍ منهم على 55 ألف دولار.

أيُّ ملاك أنت يارانجستين؟! وأيُّ روح نقية تعيش بين جوانحك؟! كيف تمنح نصف مليون دولار وهي حقك الشرعي وجائزتك المستحقة وأنت من طائفة الفقراء؟! كيف تمنح نصفها لغيرك، لأناس لا تعرفهم ولا تربطك بهم أية وشائج قربى؟ لماذا لم تحتفظ بالمبلغ كاملا لنفسك؟

وحين سُئِل هذا السؤال، أجاب بدون تردد إنَّه يود أن يعبر عن حبه وتقديره لزملاء مهنته ومنافسيه، وأنهم لم يصلوا إلى هذه المرحلة من المسابقة إلا لكونهم مستحقين وجديرين بتلك الجائزة.

الدرس العجيب والفريد الذي أوصله لنا هذا المعلم الهندي الفقير، يتمثل في تلك الروح المنيرة المضيئة الخيرة التي يحملها بين جوانحه، إنه أيقونة في الكرم والإيثار والقناعة والمثابرة والإخلاص في العمل والطيبة اللامحدودة التي أصبحت عملة نادرة جدا في عالم أبسط ما يوصف بأنه عالم تعيس وساقط، عالم تحكمت فيه قيم الأنانية والجشع والبغضاء والكراهية والأحقاد السوداء. فقد حولتنا تلك الصفات إلى مخلوقات قبيحة كريهة وقحة صفيقة وحاقدة.. فمن الآن يتبرع بنصف جائزته لمنافسيه؟ مَن الآن يعطي بهذا السخاء وهو فقير معدم؟ من يُضحِّي بنصف مليون دولار قبل أن يتسلمها أو حتى يراها ويقبضها؟

رانجستين ديسيل أحيا لنا الأمل بأن الخير ما زال في طبيعة الجنس البشري؛ لذلك سيظل نموذجا إنسانيا ساطعا يزرع الأمل والأمان في هذا الجنس قبل انقراضه. رانجستين ديسيل أكد لنا أنَّ هناك من البشر من يُحيي النفس البشرية، وهناك من يقتلها ويعدمها، وسيان بين الاثنين.

لقد علمنا رانجستين ديسيل من قريته الهندية الفقيرة أنَّ الحب هو نور العالم، وأنَّ التضحية والعطاء هما شموع هذا الكون الموشك على الانطفاء.

اللهم ارزقنا "كمين حبة" من أمثال رانجستين ديسيل في كل مؤسساتنا، لننهض ونتنفس ونرتفع ونرتقي ونتقدم.