إنهاء خدمات 80 امرأة عمانية؟

 

د. عبدالله باحجاج

علينا بدايةً تسجيل مُلاحظة عامة ننطلق منها لمناقشة القضية التي عنونَّا بها مقال اليوم، وهي مُلاحظة لا نعتقد أنَّنا سنجد من يختلف معنا فيها، وبالذات كل مُتابع للانعكاسات المالية والاقتصادية على الأوضاع الاجتماعية؛ حيث تظهر الملاحظة في قضية اليوم بصورة لافتة؛ مما شكَّل لنا قاعدة عامة في الظرفية الراهنة، وقضيتنا اليوم تشكل تطبيقا لهذه القاعدة، وسنجد الكثير من القضايا التي طرحناها في مقالات سابقة، وآخرها مقال الأسبوع الماضي المعنون بـ"الفرحة الغامرة لم تكتمل"، تدخل ضمن تطبيقات هذه القاعدة.

ويتمثَّل جوهر الملاحظة/القاعدة، في أنَّ عملية تطبيق الإصلاحات وتنفيذ التوجيهات، أو تقديم الأفكار والاقتراحات، تتم دون مراعاة الأبعاد الإنسانية رغم جانبها الحقوقي، وهي بذلك تمس -بصورة صارخة- جوهر المواطنة؛ والمواطنة هي منطقة العواطف الخالصة، تقع فيها روابط الولاء والانتماء والإخلاص والوفاء والمحبة.

وهي مع ذلك -أي المواطنة- استحقاقٌ سياسيٌّ، تنجم عنه مجموعة حقوق أصيلة للمواطنين، تقابلها مجموعة واجبات استثنائية مُلزِمة لهم. والمواطنة الأصيلة لا تُمنح بقرار سياسي، وإنما تُستحق منذ الولادة من أبوين استحقَّا بدورهما المواطنة عن تاريخ أسري واجتماعي ممتد، وقد يكون الامتداد سابقًا على نشأة الدولة/الدول.

برزَ لنا هذا المفهوم عن المواطنة، بعد أنْ تواصلت معنا مجموعة من نساء عُمانيات يمثلن 80 امرأة، تمَّ إنهاء خدماتهن عن العمل، دون معاش تقاعدي، ويُساوَمن الآن بين التوقيع على إنهاء الخدمات مقابل استمرار راتبهن لمدة 6 أشهر فقط، وبين عدم التوقيع ووقف راتبهن فورا!!

هذه المُساومة غير متساوية الأطراف، ولو كان قرار الإنهاء تتوافر فيه كل شروط الشرعية -ليس بالضرورة القانونية فحسب- وإنما هناك عدة اعتبارات تُفهم ولا يُفصح عنها؛ فلماذا المساومة؟ ولماذا اشتراط توقيعهن؟!

للأسف، الكثير منهن وقَّعن وثيقة إنهاء الخدمات تحت وطأة الخوف المبطَّن من قوة السلطة ومركزيتها، وكذلك الخوف من فقدان راتب 6 أشهر، حتى لا يخرجن "من المولد بلا حمص"!، بينما القلة منهن رفضن التوقيع، فحُرِمن من الراتبيْن، ويواجهن الآن إشكاليات قانونية بعد إرجاع شيكاتهن، ومصيرهن الآن معروف، كما ستدخل النساء اللاتي وقعنَ في الإشكالية نفسها بعد 6 أشهر، عندما يجدن أنفسهن بلا راتب، فلن تُسامحهن أو تتعاطف معهن البنوك وشركات التمويل؟

حجية السلطة في اتخاذ قرار إنهاء خدماتهن، أنهن كنَّ يعملن على بند المكافأة الخاصة، ولسنَ موظفات؛ فما ذنبهن إذا كان ذلك رغبة من كان بيده القرار آنذاك، ورغم ذلك، فقد كُنَّ يُعاملن كموظفات فعلًا، بدليل إعطائهن شهادة راتب، استطعن من خلالها الحصول على قروض من البنوك وتمويلات من شركات التمويل، ولو لم يُمنحن هذه الشهادة لما ترتبت عليهن الديون، والتي تُطالب بها الآن البنوك وشركات التمويل، وهذه الشهادة من الشروط الأساسية التي تعبر عن العلاقة الوظيفية بين المؤسسة والموظف.

حاولتُ جاهدا -لكنَّني فشلت- معرفة من يقف وراء رفع مقترح إنهاء خدمات النساء؟ ولو بحثنا سنجد أنه الفكر نفسه الذي يقف وراء احتساب أول مربوط وليس آخر راتب يستحقه العسكري المتقاعد في إحدى دول مجلس التعاون الخليجي (راجع مقالنا الأخير المعنون "الفرحة الغامرة لم تكتمل"). إنَّها أفكار تُرفع، لا تراعي الأبعاد الإنسانية للمواطنين، ولا حمولتها الوطنية، رغم ما تتوافر عليه من حقوق قانونية مباشرة أو ضمنية.

فلماذا مثلا لا يقدِّم هذا الفكر مقترحات التقاعد أو تدوير النساء لمواقع وظيفية أخرى؟ لماذا الإصرار على مقترح إنهاء الخدمات؟ نحن على يقين بأنَّه لو علم صانع القرار بظروف النساء كاملة وملابسات ملفهن، أو قُدمت مقترحات تراعِي مجموع المصالح، لكانت الرحمة أسبق من قطع الأرزاق.

هنا نتساءل: كيف يُمنحن شهادة راتب إذا كُن غير موظفات؟ لو بحثنا في كل المعطيات والخلفيات، سنجد أنهن كان يتم التعامل معهن كموظفات فعلًا، وبصرف النظر عن هذه الحيثيات، فإنّهن مواطنات، وكنّ يعملن بانتظام والتزام لسنوات عديدة في مهن فنية بناء على رغبات عُليا سابقة.. لذلك، يُستوجب تقديم اقتراحات وأفكار تخدم المواطن وتعزز المواطنة عوضا عن توسيع نطاق الاستياء والإحباط وامتداده لفئة النساء.

80 امرأة عُمانية، بين أرملة تُعيل أيتامًا، ومطلقة مسؤولة عن أسرة فيها أطفال، ومتزوجة غارقة مع أسرتها في الديون، يجدن أنفسهن الآن بلا أي دخل، فكيف ستكون أوضاعهن؟ وما مصيرهن مع البنوك وشركات التمويل؟

هؤلاء النساء يعشن أوضاعًا صعبة ومعقدة "ظروفًا وأحوالًا" قبل إنهاء الخدمات، فكيف بعد قرار الإنهاء؟! سيُرمى بهن إلى القاع الاجتماعي، ويوميًّا نتعايش مع آهات هذا القاع وأنّاته، وقد بدأ ساكنو القاع يزدادون ومن مُختلف الفئات، نتيجة سياسات وأفكار تقفز فوق الأوضاع الاجتماعية، وهذه رؤية غائبة، لعدم وجود جهة حكومية أو مستقلة تهتم بمثل هذه التحولات السلبية.

تواصل بعض النساء معنا لرفع صوتهن للسلطات العُليا، وقد وقفنا على مشاهد البساطة فيهن، واطَّلعنا على محدودية حالهن وأحوالهن، ويقيننا أنهن لا يستاهلن هذا المصير أبدًا، ولا الذي ينتظرهن عندما تُحال قضايا شيكاتهن إلى القضاء.

أتدرُون حجم راتبهن المستهدف بالقطع والمساومة؟ إنَّه لا يتجاوز 224 ريالًا فقط، فكيف تطمئن الضمائر بقطعه؟ لماذا لم يفكروا إلا في هذا الحل المفرط في الحدية؟ فكرة إنهاء الخدمات تعني خراب بيوت مواطنات، ويكون مصيرهن القضاء، فكيف نرتضي السجن للنساء؟!

إنَّني على يقين تام بأن هذه القضية لو وصلت لصناع القرار وفق ما قدمناه من حيثيات ومعلومات وخلفيات، لن يرضوا بهذا المصير لنساء خدمن لسنوات طويلة في مقامات رفيعة، وكن أمينات للأسرار، ووفيات للمهنة، ومتفرغات لها، وليس عندهن الآن أي مهنة أخرى يعشن عليها، خاصة وأنَّ إنهاء الخدمات ليس نتيجة عقوبة إدارية أو قضائية، وإنما قد تدخل ضمن إعادة الترتيبات الداخلية.

نُطالب بوقف إنهاء خدماتهن؛ فالرحمة والرأفة بهن يا وطني، إنهن نساء ضعيفات المسير، وإنهاء خدماتهن سيقلب مصيرهن رأسًا على عقب، علاوة على أن الإنهاء بهذه الطريقة، يمس جوهر المواطنة، وبالذات في وفائها والتزامها، وهذا المساس يمتد الآن لفئة النساء، وهنا نجد أنفسنا أمام مطلب آخر ومتعاظم وهو الاستعانة بمصانع أفكار ومقترحات رحيمة بالمواطنين؛ فالفكر الذي يقف وراء إنهاء خدمات النساء تنقصه الرحمة، مثل حالات سابقة، وبعيد كل البعد عن فكر المحافظة على مفهوم المواطنة وتعزيزه، ومن المؤكد أننا نأمل خيرا لهن من سلطتنا العليا.