بناء الثقة بين مسؤول قوي وضعيف

د. صالح الفهدي

أرسلَ الشاب العُماني المشارك في برنامج إداري أقامته "هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية" بمدينة ماساشوستس بولاية بوسطن الأمريكية، بريداً إلكترونيًّا لمشرف البرنامج، يعتذرُ فيه عن حضور البرنامج في ذلك اليوم؛ نظراً لإصابته بوعكة صحيَّة، فردَّ عليه المشرف الأمريكي: "لا داعي لأن تبعثَ مثل هذا البريد لأنك في الولايات المتحدة الأمريكية"، وحين قابله وجهاً لوجه قال: "نحنُ نتعاملُ بالثقة هنا".

مثل آخر جميل في إحدى الشركات في القطاع الخاص عندنا، وهي بيئة ذات ثقافات مختلطة؛ حيثُ أرسل أيضاً موظف لمسؤوله المباشر بريداً يفيد بأنه لا يشعر بأنه في حالة نفسية تسمح له بحضور الدوام، فكان الرد: "يهمنا أن تكون بخير، اهتم بنفسيتك".

بناءُ الثقة بين الموظف وجهة عمله أهمُّ عنصر لارتفاع الأداء العملي، والرضا الوظيفي؛ لأنَّ الثقة هي مؤشِّر تقدير المسؤول لموظفه، وهي التي تقوي روابطه بالبيئة العملية التي ينتمي إليها، كما أن المسؤول بثقته في موظفه إنما يبني فيه القدرة على اتخاذ القرار، ويمكِّنه من أداء عمله باستقلالية، ويُشعره بقيمة المسؤولية، وهذه هي عوامل مهمة لتقوية الولاء الوظيفي، وصدق الانتماء لجهة العمل.

أمَّا حين يكون المسؤول من النوع الذي لا يثق في موظفه، ويعتقد أنه يفهم أمور العمل أفضل منهم فهو صاحب شخصية نرجسية، يملكُ طبعاً أنانياً، لا يجعله مؤهلاً لإدارة البشر، ناهيك عن توجيههم وإرشادهم! أحد الموظفين حين طلبَ منه المدير الجديد أن يقوم بعمل مَحضر لاجتماع لجنة شؤون الموظفين، قال: "إن المدير السابق قد عوَّدنا على أن يكتب هو المسودَّات ونحن نطبعها"، فردَّ عليه المدير الجديد: "أنتم لستم طبَّاعين، أنتم موظفون، وبهذا أنتم تقومون بعمل المسودَّات وأنا سأراجعها"، وقد كان هدفه بناء الثقة فيهم حتى يتمكنوا من أداء العمل كاملاً.

المسؤول الذي لا يثق في موظفيه إنما يزعزع قدرتهم على إنجاز العمل، ويعمل على شلِّ حركتهم، وتقييد إبداعاتهم، وإعاقة أفكارهم، لهذا من المستبعد أن تلاحظ في جهات العمل التي تتسم بمستوى ضعيف من الثقة بين الرئيس والمرؤوس أداءً خارجاً عن الروتين المعتاد، وإنجازاً مبدعاً مختلفاً، لأن المسؤول يخشى على نفسهِ وعلى منصبه إن هو منح الثقة لموظفيه.

المسؤول الضعيف هو الذي لا يمنح الثقة لموظفيه، فهو الذي يوقِّع الأوراق جميعها، وهو الذي يحضر الاجتماعات جميعها، وهو الذي يطلع ويشارك في كل شيء وإن كان ذلك على حساب تعطيل العمل، وبطءِ الإِنجاز، واعتلال صحته، وانغماسه الكلي في العمل!!

المسؤول الضعيف هو الذي يتشكَّك دائماً في موظفيه، ويظنُّ سوءًا بهم، ويقللِّ من أعمالهم، ويحتقر أفكارهم، وينظر إليهم بدونية، في حين ينظر لنفسه بأنه أفهم وأعلمُ وأحكم من موظفيه..!

المسؤول الضعيف هو الذي يُشعر موظفه بأنه في "حضانة"، وليس في بيئة عمل ناضجة، فيُراقبه في عمله، ويقفُ على رأسهِ في أداء واجبه، ويلصق له الملاحظات في جهازه، حتى يصبح كابوساً لموظفه لا يطيق رؤيته!

والسبب وراءَ ذلك أنَّ المسؤول الضعيف في الأساس هو فاقد الثقة في نفسه، فيُخادع نفسه بفقدان الثقة في الآخرين، للتغطية على نقصه، وسدِّ عَورِ عقدته النفسية!

أما المسؤول القوي، فهو الذي يقوي في موظفيه كل عوامل بناءِ الثقة، من تحفيزٍ، وتشجيعٍ، ودفعٍ للقوى، وشحذٍ للهمم، وهكذا كان يقول نابليون بونابرت: "من قال: لا أقدر، قلت له: حاول، ومن قال: لا أعرف، قلت له: تعلم، ومن قال: مستحيل، قلت له: جرب".

المسؤول القوي هو الذي لا يثق بنفسه وقدراته، ولا يخشى على منصبه من أن يخطتفه موظفون إن كانوا أكفأ منه، فنظرته أوسع في المصلحة العامة وليست ضيِّقة في المصلحة الخاصة.

في إحدى الوحدات الحكومية شكر قائدٌ أحد المديرين فيها على عملٍ أنجزه، فقال المدير: "أشكرك على هذه اللَّفتة الطيبة لشكري، ولكني لم أقم بهذا العمل وحدي، وإنما ساعدني عليه موظفٌ وموظفة، فأرجو أن تشكرهما كما شكرتني". وفي اليوم التالي، استدعى القائد المدير وموظفيه، وقدَّم لهما الشكر، فضرب المدير مثلاً جميلاً للمديرين الذي يستأثرون وحدهم بإنجاز موظفيهم، ولا يظهرون إلا أنفسهم لأعمالٍ اجتهد فيها موظفوهم.

في جهةٍ أُخرى، رفعَ موظفٌ إلى رئيسه التنفيذي موضوعاً ووضعَ فيه عدَّة مقترحات، فردَّ عليه الرئيس التنفيذي: اختر ما تراهُ مناسباً من المقترحات. لقد كان الرئيس التنفيذي قادراً على أن يختارَ فهو يملك القرار، وإن كان غير مناسبٍ، ولكنه أراد أن يبني الثقة في موظفه، ويكرِّس فيه الشعور بالمسؤولية.

إنها الثقة التي تبني القدرات أو تحطِّمها، فإن أردتَ أن تحكم على كفاءة مسؤول فاجعل الثقة على رأس الأحكام التي تحكمُ بها على قدراته، ومستوى إدارته لتعرف إن كان كفوءًا بالإدارة أم أنه نزلَ كمصيبةٍ عليها!!