الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)
ضاقت عيناها الغائرتان، وزمت شفتيها المتيبسة والجافة لتكونا خطاً واحدا ضعيفا، تُحاول التماسك ومنع ارتعاش ذقنها الدقيق، تُجاهد سعير غاضب يعتمل في خوالجها. ارتفع صدرها الصغير ويهبط لقلة حيلتها، احتضن كفها كفَّ شقيقتها الصغرى بقوَّة حتى ابيضت أناملها، تألمت الصغرى فأطبقت أسنانها على شفتيها لن تتأوَّه، الآهة تؤذي أختها. وقفتا تحت شجرة "الميطان[1]" والريح تنفخ بقوه تهز أغصانها فتعريها من الأوراق الميتة وتعود فتهدأ لثوانٍ ومن ثم تعصف وتصفر وترفع ثياب الفتاتين المصنوع من النيل الأزرق.
جلس الرجل البالغ يعد نار الموقد ليسخن الحليب، ويتحقق من حبات "الفندال" وهي البطاطا الحلوة. كان الرجل قد دَفنها بين رماد الموقد والحصى الساخنة حتى تنضج على مهل. تفحَّص الرجل الموضع يساره يتأكد أن ابنه لا يزال نائماً، امتد ارتفاع صخر الوادي إلى أعلى كأنصاف أقواس دائرية كأنها حصن يطوق شعاب وبطن الوادي العظيم، فيُظِل قاطنيه والركبان الرحل، ويحمي من لاذ به من الريح العاصف.
زاد تقوُّس حاجب الرجل الكثيف المسودة، ثم أطبق بأجفانه قليلاً، وأرخاهما، وزفر، تلمست أصابع كفه اليسرى ذقنه يعبث بلحيته الكثة والتي تنافس بسوادها الكحل الذي يزين عين أُم الفتاتين، سحب الرجل جرعة من الهواء وأطلقها مُتأففا، أخذ عصًى غليظة كان يضعها على جنبه ورفعها وأشار بها نحوهما بتهديد وهتف قائلا: "غدن غدن" - أي: اذهبن.
رفعت الصغرى رأسها ونظرت لأختها وقد انفرطت أدمعها الحبيسة، هي لا تملك القوة والبأس الذي تملكه الكبرى، سحبت الفتاة أختها معها وابتعدتا بضع خطوات للخلف واختبأتا في شق ضيق بين صخور الوادي، بعيداً عن مدى نظر الرجل. أقض حسيس النار التي تُهشم الأغصان اليابسة تحت حجر الموقد مضجع الأفق الدعجاء وثماره اللامعة، غمرت رائحة الحليب الساخن و"الفندال" المشوي المكان، وانتشرت النفحات الزكية الطيبة أرجاء الشعاب.
قرفصت الفتاتان في محاولة بائسة لإخفاء قرقرة بطنيهما، ضمت الصغرى ركبتيها وطوَّقتهما بشدة بساعديها، لفَّت الكبرى يدها اليمنى على كتفيْ أختها، وهمست لها بأن الليل سريعا سينجلي وسيلحقن بالركب الذي تخلَّفن عنه مع أول بزوغ الشمس، وبالتأكيد والدتهم تنتظرهما عند مشارف الوادي. هزت الصغرى رأسها بمعنى نعم، ومدت نظراتها للرجل وألسنة النيران وطقطقة الخشب وأبخرة الحليب الساخنة التي تداعب نسيم الليل العليل، كان يأكل حبة "فندال" ساخنة يقلبها بين كفيه بسرعة ليخفف سخونتها، ومن ثم ينفخ عليها كي تبرد، وعادت تركز نظرها على الأرض وترابها الأحمر وحصاها الأبيض أمسكت غصنا يابسا، وبدأت تخط أشكالاً دائرية. زفرت الكبرى بملل لو لم تتخلفا عن اللحاق بأمهما وخالهما، لما علقتا في هذا الوادي، ولو لم يفزعن من كحل الليل، ولو لم يشدهن دفء نيران الموقد ورائحة الحليب الذي خِلنه طوق نجاه ما تعرضن للطرد من هذا الرجل النهم الشَرِهَ، سحقاً لأقدامهن الضئيلتين وأنفاسهن اللاهثة ومعدتهن الخاوية المشدودة.
يسهل أن تُخذل حين تكون صغيراً، لا أحد يحفل بك ولا يفطنون للقلم الذي يسطر في ذاكرة الروح، ولا يخال لأحد أن الصغير يكبر ويتذكر كل من نبذه يوماً.
همست الصغرى لشقيقتها "حيرك" بمعني بردت، فما كان من الكبرى إلا أن تضعها خلف ظهرها والصخرة خلفها، وقفت الكبرى تصد التيارات المسائية بجسدها الهزيل المُنهك.
أقبلت اِمرأة البدر عليهم، بهيةٌ طويلة ورشيقة أشد جمالا من الذي ينير قلب السماء وعلى رأسها إناءٌ يعرف بـ"قعلو" وهي فخارية مخصصة للحليب.
أثارت هيئة الطفلة وثوب النيل الذي يتمايل مع نسمات الليل فضول البدر، اقترب من الفتاة التي انتبذت مكاناً يبعد زوجها وموقده، تنزوي بين شق الصخر، اتضحت ملامح الفتاة للمرأة وتعرفت عليها وعرفت أهلها، الناس يعرفون بعضهم جيداً. ابتسمت المرأة وقالت بحبور دافئ " كيت بون، انكعي شيْ" أي: لِم أنتِ هنا؟ تعالي معي.
أطلَّ رأسٌ صغير من خلف ظهر أختها، ومالت ضفائرها مع ميلان رأسها، افتَّرت شفتها عن ابتسامة خجولة وبقايا دمع جف على خديها، تحسس أنفها رائحة الحليب والرغوة الكثيفة وكأنها غيمة قطنية تغطي الإناء الفخاري المتوازن فوق رأس المرأة. مدت الكبرى يدها اليسرى تحمي أختها، وشزرت الرجل بطرف عينيها الضيقتين، وقالت بكتمة مخنوقة: " لوب، ال عجن لوء" أي: لا، لا نريد.
امْتقع وجه البدر وأحمر، هي أكثر الناس معرفة ببخلِ زوجها، تأصل بخله وتجذر وقد قبلت بعلاته ورضت، وكابدت مرارة بخله أزمانا. شدت المرأة طرف ثوبها في قبضة يدها بقوة ورفعت يدها اليمنى تُثبت الإناء فوق رأسها، وأسرعت وشياطين الغضب في ذيلها، رمت بالفخار نحو زوجها واستقرت على الموقد، بعد أن تحاشى الرجل الرمية. انطفأت النار وشربت بطن الأرض الجائعة، صرخ الرجل بغضب واختلطت الأصوات الساخطة والغاضبة، واحتدَّ الجدال والنبرات القاسية مطرقة وإزميل يحفرون الصخور وتتردَّد أصداء الطرق تُعكر صفو السكون. انتهى النزاع والصراخ بكلمة واحد استقرت في أُذن الطفلتين، لم تفهمها ولكن حفظتها عن ظهر قلب، لكي تسألا والدتهما عنها لاحقاً، وهي: "هيت مشخيشوات" - أنتِ طالق.
ومع بزوغ أول خيوط الفجر، أيقظتْ الكبرى شقيقتها، وقالت بسرور غامر: "انغد تل اَمِيْ"؛ أي: سنذهب إلى أُمي.
كَسَا الحصى الأبيض حُمرة خجلة عكستها شمس الصبح، لا جمر يُذكي نار الموقد ولا إناء يطفو بالغيم الأبيض، ولا رائحة شواء "الفندال" تغمر الشعاب، الرجل فارع قامته ويضع كفيه على خاصرته وشعره الطويل الكثيف الملتف يميل مع نسيم الصباح. انتهى الصراع بين الصخر والبدر. تقدمت المرأة منَّا وقالت "الغد شيكن" سأذهب معكم، حملت طفلها وصُرة فوق رأسها واليتيمتان تقفزان بنشاط فرح أمامها، يتلمسون جميعًا الدرب في أثر الرَّكب.
[1] شجرة الميطان: شجرة الميطان أو الزيتون البري من الأشجار المهمة والمعمرة في محافظة ظفار