مات رجلا وعاشت أرملة

عائض الأحمد

عندما كان العُرف، وقليل من الدين وكثير من مظاهر التدين، عاش ذلك العامل البسيط مشاعره المتعثرة مشتتَ الذهن بين حياته الشخصية وقوت يومه الذي يختمه مع زوجته المتأففة الساخطة الناقمة عليه، وكأنه من سقط المتاع؛ فلا هو استطاع الخلاص ولا هي قَبِلته بحاله، فلا دين يعطيه الحق أو يعطيها، هكذا "كاثوليكية" النهج والسيرة، وكيف بذلك الحال أن يستمر.

فاهتدتْ إلى القضاء، لعله مَخرجها إلى حياة أخرى ترى فيها نور ثورتها، وتحقيق آمال بغيها وإنكار سيرتها، فما قبلتْ به من سنوات عافته نفسها الآن، لم تَعُد تُشاهد وتسمع إلا وحي غرورها، تؤمن بالجحود وتعتنقه "مِلَّةَ".

وقفت أمام القاضي تشكي ظلم ذوي القربى، وكان المغلوب على أمره أول المستمعين بصمت، يحرك رأسه فقط، مستسلماً لمصيره، راجيًا الله كثيرًا أن يبعده ويأخذه أخذ عزيز مقتدر، بعيدًا عن كل هذا.

وكان له ذلك، فحكم بسجنه شفقة ورأفة، وكما قال القاضي: "إنقاذ روح تقبع خلف الجدران خير من إطلاقها في سجن أكبر".

تهلَّل وجهه بعد سماعه، وقضى عقوبته كما كانت تظن، ولكن الأقدار لم تمهله كثيرًا، وانقضت أيام "حريته" في خلوته "النَفْسِيَّة"، وعندما علم بموعد "سجنه" القادم بين يديها، مضى في مصيره المجهول وترك لها "رسالته" الحياة لن تقبل منك كل هذا، وأنا لن أعيشه بعد الآن، الوداع ليس كل شيء، هناك ما يعقبه من ألم، عشت حرًّا، وعرفت معنى حريتي ولم أكن لأعود لسجن سيدة".

مات الرجل وعاشت أرملة تبحث عن قصة تختلس بها عمرًا آخر، وتعسف طوق نجاة، كَسَره مُتشرد جديد، لم يكن يعلم أيَّ نهاية سيلقاها، وأي كارثة سِيْقَت له، ليس ظاهرها وباطنها سوى؛ فهي تُخفي أكثر مما تظهر، تتقلب بين عشيه وضحاها، وكأنها لا تثق بأحد غيرها فهلكت قبل أن تعلم بأنها من أتى بهلاكها، ومن كال كيلها، ثم تركت مأزرها فبانت "عورتها". ولم يرحمها الوقت أو يقف معها حتى ظلها، فارقها الجميع وتخلى عنها وجهها.

مِنَ الظلم دائمًا أن تنظر بعين واحدة وتسمع بها، فليس من شاهد واقعا يستطيع أن يبرره، وليس من أخرجه من سياقه مُخطئ لننصب له المشانق؛ لأنَّ قصته توافق رؤيتنا، فعلنا لو مررناها لرويتنا لخرجنا من هذه القوقعة وبنينا رؤية أفضل وحلولًا أشمل وأوسع.

كل هذا وغيره ترويه أعين الصغيرة "ورد".

فماذا جنت "ورد"؟ وماذا قال الرواي؟

ليسوا سواءً؛ فمهما بلغت من حكمة سيظل هناك أيضًا من يحكمك.

لم يَسمع صراخك أحد، ولم تتجاوز جدران منزلك القديم الطيني، فلم يرتد لك الصدى علَّك تسمع نداءك فتجيب عليه، ها أنا أسمع، ولكن ليس من مجيب، انتهك جسدها النحيل وتيبس دمها الأحمر النبيل في عروقها الصغيرة، وأصابتها الرهبة فتحجر نبضها وذبل جسدها وتعالى صوتها في محيط ذاتها البريئة... لماذا يا أمي؟ ألستِ أنت ملجئي؟ أين حضنك وحصنك الرصين؟ أين كانت شراستك حينما نمس بضر؟ لماذا يا أمي؟ هل لك علاقة لتحميه؟ هل لك عادة تحفظ ماء وجه من حولك لأكون الضحية؟

لن أسامح من فعلها، ولن أغفر لمن مررها.

كان الفاعل والمفعول به، كان القاضي والحكم حينما جمع كل وردة قطفها من غراسها وقذف بها في يمه الآسن، أخذ بغرته وغرس يده الأخرى في صدره وانتزع كل غله وأضرم فيه النار فأحرقته "ببرودتها" المشتعله غيض، وأطفأت نار قلوبهم حتى رفاته لم تكن تشغلهم لإماطتها عن طريقهم، فقد تبددت وتطايرات، ونثرها قطر السماء، وغسل ألم تلك الأسر وكأنه طهود سواد تلك الأيام الخالية.

الأيام لم تكن دُوَل، بل كانت وقائع، والدُّوَل كانت أفرادًا يعيثون فيها؛ فمنهم مستغيث يطلب ودًّا، ومنهم ودود ينفر منه الإنس والجن ويأتون خلاف طريق يسلكه.

----------------

ومضة:

افهم كما تشاء، فلن تجد تفسيرًا لجميع أحلامك.

----------------

يقول الأحمد:

كانت هنا وبالكاد عرفتها

لو لم تكن لي لفاز أحدهم بها

فهل سألت شيخك من ساقها من وهبها

من نال منها من قبَّل يوما أقدامها.

----------------

وكَمَا قالتْ هي:

‏أنا لست مجرد امرأة متعطشة إلى كلمات الحب

ولست مجرد محبرة لقلم، يفرغ نشوته فوق السطور

ولست أنثى ملقاة فوق مجامع الحروف

ولست أمنية يتمناها كل رجل يبحث عن رغبة ينشدها

لم أقل إنني شاعرة أو أديبة لأغزل حروف العشق كمثلي من الكاتبات

أنا ليل أنثى وأنت لي نيران مشتعلة

أنا موجة تتشبث بك وسط الأمواج

أنا حدودك عندما تبحث عن الأمان

أنا صمتك وقت امتلاء العالم بالثرثرة

منك وإليك وبك

تلبسني دفء مشاعرك وأغرقني عطفك

نظرتك، ابتسامتك كنت لي فوهبتك كلي

أنا امرأة لا تشبه النساء، حورية إن أردت

أنا قدرك، وأنت المهجع والمرجع حين تتشابه الكلمات.