العوض

هند الحمدانية

السهول الخصبة تصبح جافة، وتتطاير آخر قطرة ماء تعلقت على وجه ورقة مصفرة، الأرض يكسوها الجفاف والتشقق، تنعدم البقعة الخضراء التي كانت تروي نظر العطشى، وتهاجر الطيور باحثة لها عن وطن أخضر جديد، هذا الذي يحدث عندما تعتب السماء علينا مخبئة عنا سحبها السوداء الممتلئة، منذرة إيانا أن لا ماء سوف يهطل على أرضكم، وأن أياما قاحلة يترقبها الغد، من منا لم يمر على حياته أيام جدب كهذه الأرض القاحلة، أياما سوداء لم يذق معها راحة بال ولا هناء، من منا لم تهاجر طيوره الى ارض بعيدة عنه، من منا لم يختبر معنى الجدب.. معنى الألم.. معنى الجفاف.. ومعنى الأذى.

كلنا خضنا هذه المشاعر والتجارب ولكن بمقاييس وصور ومواقف مختلفة، كل حسب المقدر له، تشارككم اليوم أسطري تجربة التأرجح بين الجدب والخصب، بين الأذى والراحة، بين الفقدان والعوض.

يقول المتنبي:

دع الأيام تفعل ما تشاء

وطب نفسًا إذا حكم القضاء

ولاتجزع لنازلة الليالي

فما لحوادث الدنيا بقاء

ولا حزنَ يدوم ولا سرورَ

ولا بؤس عليك ولا رخاء

لا تدوم الأحوال مهما ساءت، ولا يستقر الظلام مهما طال، فبعد حلكة ساعات منتصف الليل الأخيرة تبزع شمس الفجر، مخبرة الجميع أن عوض الله مهما تأخر سوف يأتي وسيكون جميلا جدا وأحن على قلب الإنسان من أمه، إنه العوض من الله، قد يتأخر نعم، قد يطول انتظاره، بل وقد ييأس البعض منه، ولكنه عندما يأتي يكونوا غزيرا جدا لدرجة أنه قد يسقي أرضك الجدباء وما حولها من امتدادات وسهول ومنحدرات ومرتفعات.

والعوض في اللغة هو البدل والخلف والمقابل، وما يعطى تعويضا عن شيء، فما بالك إذا كان هذا المقابل والبدل والتعويض من كنف الله، كيف لخيالك أن يستوعبه، كيف لعقلك القاصر أن يستوعب شيئا لا يمكن أن يكون قاصرا أو محدودا، إنه العوض الجميل والكبير والواسع والممتد من الله.

لدي صديقة رائعة لم يكرمها الله بالأبناء، حاولت طوال سنوات عمرها أن تعبر المحيطات وتسافر لأبعد البلدان، صرفت الكثير من المال، ولم تجني من كل تلك المجهودات سوى خيبات الأمل والكثير من الألم في جسدها بعد كل محاولة، ولم ترزق بعد بما ترجو، لكنها أيقنت مؤخرا أن الله أبدلها خيرا من الأبناء بزوج لم يخذلها قط، بزوج كان لها الأب والابن والأخ والصديق، أيقنت أيضا حكمة عظيمة تكمن خلف حرمانها من نعمة الأبناء: وهي أن تستمر ببر والديها المسنين وأختها المعاقة، يكفيها من عوض الله الرضا الذي امتلأ به قلبها كل ليلة قبل أن تغمض عينيها؛ وهي تقول: "ربي لك الحمد على راحة البال والسكينة".

قصة أخرى لصديقتي الروحية التي تعرضت لجلطة دماغية مفاجأة، وهي في كامل صحتها وحيويتها، حزن لأجلها الجميع، وضاقت صدور الأهل والأحباب، بعد فترة علاج طويلة عانت فيها من شلل نصفي وضعف في التركيز وتلف في الاعصاب. نظر الجميع بتعاطف شديد، لكنها همست لي بكل شغف عندما زرتها أنها كانت في أسعد لحظات حياتها بعد هذه الجلطة الدماغية، صدمتني عبارتها الشجاعة حتى اغرورقت عيناي بالدموع سائلة إياها كيف؟ ولماذا؟! أجابتني: "كنت أعيش طوال 10 سنوات حياة لم تشبهني قط، مع شريك عمر لم يمثل في حياتي سوى الظل، تجردتُ من كل أحلامي وهواياتي وطموحاتي العظيمة، وأصبحت أخرى لا أعرفها أبدا، رزقني الله بالأبناء ولكني خسرت ذاتي، أردتُ أن أستعيد نفسي في أكثر من محاولة لكني ومع كل جرأتي وقوتي خذلت نفسي واستسلمت. لكني أذكر آخر شهر رمضان مر علي قبل المرض أني سجدتُ في عشر أواخره ودعوت الله، دعوة صادقة خرجت من صميم روحي، قلت فيها: ‘إني غارقة يا الله ولم يعد بيدي شيء، انتشلني مما أنا فيه بغير حول مني ولا قوة’، فجاءني الرد عاجلا وسريعا على شكل جلطة انتفضت معها روحي وأحلامي وحياتي.. أيقنت في تلك الليلة وأنا على سرير العناية المركزة أنني لن أعود لتلك الحياة وذلك الرجل، وبعد أن خرجت كنت أنا التي أحببتها كثيرا، تخليت عن كل أذى كان ينتزع مني عمري وأيامي، وعدتُ لنفسي ولكل شيء كان في يوم ما جزءًا مني".

هكذا يأتينا عوض الله على شكل حمامات سلام تطمئن أرواحنا.. تهدينا الطمأنينة والرضا، على شكل سحابات مطر تروي أرواحنا العطشى التي أثقلها ظمأ الحياة. إنه العوض الذي مهما تأخر سوف يأتي لا محالة؛ فالأحوال لا تدوم، والأيام يُداولها الله بين الناس، وما كنت تراه بعيدًا، يصبح أدنى لك من رفة رمش وغمضة عين. فكيف للشك أن يدخلك والله سبحانه يقول: "فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا".

إذن مع العسر اليسر وليس بعده. فلتطمئن روحك يا صديقي، فأنت بين يدي الله وهو الحليم اللطيف، وذلك العوض الذي تنشده سوف يأتيك من ذي الجلال والاكرام.. فأبشر بما هو آتٍ.

تعليق عبر الفيس بوك