مدرين المكتومية
أتعلم كم مرَّ من الوقت على آخر لقاء جمعني بِك، وكم من الوقت مرَّ على رحيلك الحزين.. أتعلم كم مِنَ المرات أستذكر فيها تلك اللحظة الفاصلة بين لقائي بك وخبر وفاتك، كانت خمس دقائق لا أكثر تفصلنا، كُنت حينها على باب المستشفى، مُتشوِّقة لرؤيتك حين باغتني اتصال والدي بأنَّ القدرَ القاسي قد خَطَفك مِنا دون أن يُعطينا فرصة لوداعك، لكنه الموت لا ينتظر أحدًا، فهو كضربة سيف موجعة.
لا يزال كل شيء كما تركته، لم يتغيَّر شيء، سوى أنَّ الغبار أكل كل ما تبقى من كتبك القديمة، ورسائلك أصبحت مُتهالكة لا يمكن فك طلاسمها، و"الحصيرة" التي تقاسم العابرون عليها فناجين قهوتك لم تعد موجودة، وهجر المارة محطتك بعد أن تمَّ استبدال "حصيرتك" ببنيان من الأسمنت، بنيان تظل أبوابه مغلقة لأيام طويلة دون زائر يُعِيد للمكان حيويته.
إنَّ كلَّ ما تبقى منك هو ما علق في ذاكرتنا من مواقف وشواهد ولحظات عشناها وتعايشنا معها، حتى في أقسى لحظاتك وأنت على سرير المستشفى، كنت وقورًا في حزنك، هادئًا في ألمك، صابرًا على مِحنتك، أذكُر حينها عندما جاء إليك خبر وفاة "جدتي"، كُنت تحاول جاهدا أن تخفي دمعتك التي علقت بين جفنيك حتى لا تسقط وتظهر أمامنا بحزنك، فأنت كالجبل الشامخ الذي تربيت فيه، وأيضا تعلم منك الكثيرون، حينها اكتشفت عظمتك وقوتك حتى في أشد اللحظات وأقساها؛ فرغم مرضك الشديد وجدتُك تشد على يدي وأنت تُتمتم بكلماتك البسيطة التي لا تكاد تخرج من فمك الجاف بفعل الأدوية: "الضيفة، الضيفة.. اذهبي للمنزل، أكرموا الناس في العزاء، تأكدوا من أنَّ كلَّ شيء منظم ومُرتَّب"، حينها شعرت بشيء ما يُجثم على صدري، لم أستطع التحمل، فانهرتُ باكية وأنا أغادر لتنفيذ ما طلبته مني.
صحيح أنك رحلت ولم يبقَ منك سوى صورة وحيدة مُعلَّقة منذ زمن بعيد على جدران حائط غُرفة الضيوف المتهالكة بمنزلك، الذي أصبح بعد رحيلك بلا روح؛ فالمنازل تحيا بأرواح ساكنيها، كذلك الحال مع ما تبقَّى من صور وألبومات قديمة موزعة داخل أدراج مُغلقة، تمر عليها أشهر دون أن يفتحها أحد من أبنائك أو أبناء أبنائك، غرفتك مغلقة ونافذتك لم تفتح لشمس، حتى شجرة النخيل التي كُنت تعتني بها ماتت، فلم تجد بعدك من يسقيها بحب واهتمام؛ فالنَّبتة كما الإنسان العاشق، تحتاج دائما لساقٍ مُحبٍّ وجاد؛ لذلك لم تَصمُد هي أيضا.. رحلت برحيلك.
أمَّا بالنسبة لي، فما زلتُ أراك في أحلامي ولا يزال صوتك يسكنني، وكلماتك تزاحم يومي، فكل ما أود الإقدام على شيء، أفكر ألف مرة قبل أن أخوض فيه؛ فوصاياك لي ما زالت هي المرآة التي أرى فيها نفسي كل يوم، كلما تقدمت عامًا كنت أتذكرك، كلما أنهيتُ مرحلة تعليمية كنت أرى ابتسامتك تعتلي شهادتي، وكلما التقيتُ بأحد يعرفك لا يكف عن الحديث عنك، لا يزال هُناك من يتذكرونك، لا يزال اسمك باقيا، لا يزال صدى ما قدمته لأبناء قريتك باقيا، ولا يُمكن لأي قوة أن تمحوه وتزيله.
يصلني صوتك من بعيد، يقول لي: "لا تتوقفي، استمري في شق طريقك، ابتعدي عن كل من يقف عائقا أمام تقدمك، اكسري كل الحواجز، ابتعدي عن كل ما يؤذيك، ارسمي البهجة على الوجوه الحزينة، كُوني أنتِ بحيوتيك وإيجابيتك ورغبتك المتَّقدة وتمرُّدك على واقعك، اذهبي إلى حيث تريدين، سافري نحو أحلامك بقلب قوي، وعقل سليم، اجتهدي فإنَّ لكل مجتهد نصيبًا، لا تلتفتي للوراء مهما حصل، ولا تتعثري عند أول حجرة، بل اجمعيها جميعًا واصنعي منها سلمًا لتصلي بنفسك نحو العلا، ابحثي، وأقرَئي ولا تتوقفي، حتى وإنْ لم تحصلي على كل ما تريدين، ضعي نُصب عينيك أن الحياة تحتاج لشخص قوي يُذللها، ولشخص قادر على المجازفة دون أن يقف وينزوي عند أول محاولة فاشلة، تحتاج لشخص يخوض حربًا مع نفسه حتى إذا خسر، تكون خسارته بجدارة؛ فالحياة في مُجملها لا تُعطِي الشخص كل ما يتمنَّى؛ فهي تختبر صبره لتعطيه الأفضل، وتختبره بالمحن لتقوِّيه، وتختبره بالمرض لتطهره، وهكذا...".
هذه الرَّسائل التي تأتيني من العالم الآخر، ما هي إلا بقايا من وصاياك، ومن معاملاتك مع الناس، ومن كل ما قدَّمته خلال مسيرة حياتك العطرة، إنها ملخَّص لما أطبِّقه وأعيشه الآن، مُلخَّص لكل الحِكَم والقصص التي كُنت تَسردُها لي ولغيري من أحفادك، لتُعطِينا من خلالها دروسًا من الحياة لحياة أخرى نعيشها بعدك.. رحمة الله تغشاك يا جدِّي.