"أيام بين شيكاغو وباريس" (1- 2)

عبد الله العليان

يعدُّ المفكِّر والأكاديمي الدكتور محمد حامد الأحمري من الباحثين الذين عاشوا شطراً كبيرًا من حياتهم في الغرب، خاصة الولايات المتحدة؛ سواء في دراساته العُليا، أو بعض المهام والمشاغل الفكرية، فيما يزيد على العقد ونصف العقد، بعدما أنهى دراسته العالية؛ ففي كتابه صغير الحجم المعنون بـ"أيام بين شيكاغو وباريس"، يحكي مواقف ونقاشات طريفة، أثناء أسفاره في الغرب، ولها مدلولات فكرية وثقافية، فيما يعيشه الغرب ونظرته للعرب والمسلمين بصورة عامة وفي حياته نفسها.

يقول د. الأحمري في مقدمة هذا الإصدار -عن هذه الرحلة القصيرة الممتعة- إنني: "كتبت بعض ما خطر ببالي خلال زیارة قصیرة، ولكنها غنیة، وخففت فیها القول وبسَّطت العبارة قدر الطاقة، لتكون قراءة مریحة وممتعة، والفائدة تتلو. ولو كُنت في صحبتي لرأیت من المشاهد والأمور غیر ما رأیت، وربما فسرت بغیر تفسیري المواقف والأحداث. وعلى الرغم من الإقامة الطویلة جدا في الغرب، فإنني عندما انقطعت عنها بضعة أشهر، وفي حقبة مهمة، رأیت أنْ قد یكون من المفید والممتع تسجیل ما تقرأه. ثم إنَّ لأدب الرحلات ومعرفة الآفاق من الفائدة للأفراد والأمم ما یفوق الوصف والحصر. ولیس موطنه الحدیث عن رحلة عابرة في وقت قصیر، بل هي مادة للفهم وتطویر العقول والمستقبلیات مما تنُوء به الكتابة في قصة رحلة".

وعن انطباعاته الأولية عن هذه الرحالة بين هاتين المدينتين، يصوِّر د. محمد الأحمري دخوله مطار شيكاغو بعد أحداث 2001، بعد انقطاع لفترة عن الولايات المتحدة، فيقول: "كان دخولي عن طریق مطار شیكاغو سهلًا میسرًا أكثر مما توقعت بكثیر. ولم ألحظ تأخیرًا لي ولا لغیري عند مكتب الدخول كما یتوقع المسافرون من العالم العربي، وفي مطار شیكاغو لاحظت ما لم أشهده من قبل، وهو الجیش الأمني الكبیر الجدید الذي یملأ قاعة استقبال المسافرین من مطار "أوهیر"، أغلبهم رجال في منتصف الأعمار، یلبسون القمصان البیضاء والسراویل السوداء أو الزرقاء غامقة اللون، وعلى أكتافهم شعار الوزارة الجدیدة، التي تأسست للأمن الداخلي -بعد الحادي عشر من سبتمبر- یتسلَّمون حقیبتك التي یطلبون أن تكون مفتوحة بحیث یستطیعون تفتیشها إن احتاجوا، وكثیرًا ما یحتاجون فتحها؛ لأن أغلب الحقائب إن لم یكن كلها كانت تُفتش". وأثناء ركوب الطائرة، بين فرانكفورت وشيكاغو التقى د. الأحمري، مع أحد الركاب الأمريكيين، وجرت بينهما حوارات فكرية، تعلقت بالتغيرات، ووجدته: "متقد الذكاء، متعدٍّ الشخصیة، واسع الثقافة بشكل لم أعهده إلا نادرًا. وقد تداولنا عبارات قلیلة ونحن في طریق دخول القاعة في مطار فرانكفورت، وعندما اقترب دوره من الموظف، قال: نلتقي في القاعة، والتقینا وكنا نتوقع الحدیث قصیرًا، ولكن اتحاد بعض اهتماماتنا جعله یغیِّر مقعده ویجلس بجواري، فامتد الحدیث لمسافة الطریق إلى ما بعد هبوطنا في المطار، فقد كان طریفًا غریب الأطوار، كثیر الكلام، منطلق الشخصیة، مُلحدًا عنیدًا شقیًّا، ما رأیت أجرأ منه على كل شيء".

من الطرائف التي ذكرها د. الأحمري على لسان هذا الأمريكي، الذي تحاور معه في هذه الرحلة إلى شيكاغو من الطرائف والغرائب عن اليهود وطقوسهم، أنَّه "سكن مع طلاب وعائلات یهودیة ملتزمة بالدیانة الیهودیة، فذكر لي العجب من الأغلال التي یلزمون بها أنفسهم، ویتجلى لك معنى ما أشار إلیه القرآن من مِنة الله على المسلمین، بما خفف عنهم من الآصار والأغلال التي ألزم بها الیهود أنفسهم، أو عُوقبوا بها لسبب یلیق بحالهم في زمن سابق، وكان أولى بهم أن ینتقلوا إلى ما خففت به المسیحیة علیهم، ثم ما حرر به الله الناس في الإسلام بعد تجاوزهم تلك الأطوار.

یقول مُحدِّثي: إن الیهودي الملتزم یجب أن یكون في بیته مطبخان؛ أحدهما للبن ومشتقاته، والآخر للحم ومشتقاته، ویحرم علیه استخدام الآنیة نفسها التي یستخدمها لنوع في نوع آخر".

ويضيف د. الأحمري في وصف رحلته القصيرة، فيتحدث عن وصوله إلى مطار شيكاغو، ويصف الظروف الأمنية والسياسية -بعد أحداث سبتمبر 2001- وحالة المسلمين من الرجال الذين يُحاولون الابتعاد عن مظاهر الرجال في الملابس الوطنية بعكس النساء، فيقول: "وصلت مساء ذلك الیوم في نهایة دیسمبر، ووجدت أنَّ هناك مؤتمرًا للمسلمین في منطقة مطار شیكاغو (منطقة روزمونت). لم ألحظ اختلافًا كثیرًا في الشكل عن المؤتمرات السابقة، إلا أنَّ الملابس البیضاء وملابس الهند وباكستان للرجال قد قل ظهورها، إن لم تكن اختفت، بخلاف السنین الماضیة. أما المسلمات، فقد كُن أصبر وأصمد على الحفاظ على الشعار الإسلامي "الحجاب". على الرغم من صعوبة الموقف وصعوبة تمیزهن في تلك الظروف".

وبعد أيام، اتَّجه د. الأحمري من شيكاغو إلى فرنسا، لحضور أحد المؤتمرات التي عقدها بعض الباحثين العرب في فرنسا، فيقول محمد الأحمري في "أيام بين شيكاغو وباريس": "كان بجواري في الرحلة من شیكاغو إلى باریس مدرس فرنسي یدرس اللغة الفرنسیة في جزیرة مستعمرة اسمها كالیدونیا الجدیدة، في المحیط الأطلسي، یُقارب حجمها حجم جزیرة مدغشقر. وقد دخل الجیش الفرنسي هذه الجزیرة أیام نابلیون بونابرت، ولم تزل مستعمرة فرنسیة ومیزانیتها من باریس، وأهم صادراتها النیكل وهي أهم مورِّد له. ولم یزل الفرنسیون یعیشون بها معیشة المستعمرین، ویحاولون تعلیم قلة من أهل البلاد ثقافتهم ولغتهم؛ لیكونوا أوفیاء لفرنسا، محافظین على الجزیرة تحت النفوذ الفرنسي".