في بيتنا غشَّاش ومغَشِّش

د. حميد بن مهنا المعمري

آفاتٌ كثيرةٌ أفرزتها التقنية الحديثة، وقد قِيل قديما آفة العلم النسيان، ونقول في زماننا آفة التعليم الإلكتروني الغش؛ فقد أفرزت التقنية الحديثة، أو بالأحرى ما أفرزه التعليم عن بُعد أو التعليم المدمج أو التعليم عبر الوسائل الحديثة، ظاهرة خطيرة تمَّت محاربتها بلا هوادة، طيلة العقود الخمسة الأخيرة الماضية، حتى إنها زجّت ببعض فرسان الميدان في زنزانة غياهب الجُب (بحُسن نية منهم)، لكنها عادت بقوة، وبلا رحمة، أكلت السؤال القصير، والطويل، واعتدت على الاختيار من بين البدائل، ولم تُنصف سؤال الصح من الخطأ، فأهملت الصح، ولم تُصحح الخطأ، وقضت على التعبير الشفهي، وأمسى تعبيرا عفويا، وارتبك التعبير الكتابي، فتناثرت حروفه، وتبعثرت كلماته وتساقطت عباراته، وهربت النقاط عن الحروف، فصارت الحروف مهملة، بعد أن كانت مُعْجمة، ولم يُفَرّق بين المقدمات والنتائج، وصُودِرت خصوصية سؤال "اعرب ما تحته خط"، وأصبح "اعرب ما فوق الخط".

ظاهرة تُهدد المجتمعات وتقتل الكفاءات، وتطمر الإنجازات بفأس الكسل، وبمعول الفشل، ظاهرة استطاعت أنْ تقيس مدى سرعة الغش عند الطلاب، وسرعة وقدرة التغشيش -للأسف الشديد- عند أوليائهم.

إنَّنا أمام مُعْضلة عويصة، شلّت أذهان العقلاء، وأربكت صفوف التقنيين، وباتت في البيوت وأصبحت وأضحت وظلت وأمست، حتى صارت  تهدم العقول، وتدك البيوت دكا!! فأين العقول يا عُمر؟!!

قال: ذهبت عند باريها.. عند من يُسهل الهمز.

ولكنَّ السؤال المُلِحَّ في هذا المقام: ما المخرج من هذه المعضلة المستعصية؟ المخرج أن يُعاد النظر في تسمية بعض الأسماء بمسمياتها الحقيقية، فلا يُسمى النشاط اختبارا، ولا الاختبار نشاطا، فإن كان النشاط اختبارا، فماذا عساه أن يقيس عند الطالب؟! هل حِدِّة حفظه، والكتاب بين يديه، وقد غلّقَ الأبواب، وعتّم النوافذ؟!! أو يقيس فرط ذكائه، وقد تحلّقت الأسرة بقضها وقضيضها، لتقديم المعونة اللوجستية المجانية؟!! إنني ومن خلال هذه الكلمة المتواضعة أُهيب بالقائمين على هذا العمل الجبّار، أن يواصلوا تحديثه، ويتغلبوا على تحدياته وعقباته، بمد جسور التواصل والتعاون مع الحقل التربوي (المجتمع المدرسي) لتشخيصه، ووصف الدواء الفعّال لأدوائه المستعصية، "ونرى أن يكون حاضرا بما يسمى بالمراقب الذكي وهو الضابط لعمليات القياس والتقويم للطلاب في ظل التعليم المدمج، بتقنيات رقمية حساسة تتابع الطلاب عند تكليفهم بمهام أو تأدية اختبارات موحدة، على أنْ يُناط بهذه التطبيقات معالجة التجاوزات التي يقوم بها الطلاب عند تأدية الامتحانات والتكاليف الموجهة لتقييم أدائهم بشكل منصف؛ فهذه التطبيقات الرقابية" هي باختصار البديل الأقوى في عصرنا "الكروني"، وما يأتي من عصور وأزمنة، وأنّ إهماله وتركه بلا مراجعة تَقَهْقر، ونكوص، وسقوط، وهدمٌ بعد البناء، وتأخرٌ للوراء.

وأخيرا.. ماذا يُرجى ويُرتجى من جيل جُلّ همهم حصد الدرجات بدون مقدمات؟!!

وليت الطلاب يقتنعون بالمقولة المروية عن الروائي المسرحي اليوناني سوفوكليس عن الغش؛ إذ قال: "أفضِّلُ أن أفشل بشرف على أن أنجح بغش".

وأختم بعد الختام بمسك الختام، بحديث أبي يعلى معقل بن يسار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرَّم الله عليه الجنة" - متفق عليه.

وللحديث تتمة...،