مهارات المستقبل.. هل نمتلكها؟

◄ مهارات المستقبل ترتكز في الأساس على التقنية والابتكار

◄ تقدُّم التعليم وتوفير التمويل وسوق عمل متطورة.. 3 ركائز للانطلاق للمستقبل

◄ برنامج "خبرات" نموذج طموح لما ينبغي أن نمضي عليه

حاتم الطائي

لم يعد الحديث عن مهارات المستقبل ترفًا أو خَوضًا في قضايا يُمكن تأجيلها؛ بل باتت قضايا عاجلة ينبغي طرحها على طاولة النقاش الجاد الطموح، والبدء في تطبيق مُخرجات ذلك النقاش على وجه السرعة، حتى لا يفوتنا القطار!

أقول ذلك وأنا أُشاهد العالم من حولنا يتقدَّم بسرعة صاروخية في مجالات تعتمد اعتمادا أصيلا على التكنولوجيا، وتوظف الذكاء الاصطناعي لإدارة شؤون الحياة، وترتكز على إنترنت الأشياء لزيادة الإنتاجية ورفع كفاءة العمل، وتستفيد في الوقت نفسه من العقول البشرية التي تُدير وتطوِّر وتشغل وتبتكر مثل هذه المنظومات، وتسعى لصقل خبراتها من خلال ضخ استثمارات تدعم أفكارهم، وتحولها إلى مشاريع اقتصادية تُدر العوائد المالية المأمولة.

مَهَارات المستقبل التي نؤكد عليها هي تلك التي تُساعد شبابنا على إيجاد فرص عمل تتناسب وتقنيات العصر الحالي؛ فالعالم من حولنا يتقدَّم بسرعة غير مسبوقة نحو المستقبل، وهناك من الدول من تعكف على وضع خططها ورؤيتها الإستراتيجية لما سيكون عليه التقدم التكنولوجي بعد 50 عاما، وهذه الدول باتت الآن تتعامل مع تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي أو إنترنت الأشياء باعتبارها أدوات العصر وليست تقنيات متقدمة، فعلماؤهم وخبراؤهم يسابقون الزمن لإنتاج ما لم يعرفه الإنسان من قبل، بل وصل بهم الأمر إلى اقتحام الفضاء، وكيفية الاستفادة من "الكنوز الفضائية" في مجرتنا!!

وهنا.. أسلط الضوء على 3 ركائز أساسية إذا ما التزمنا بها وطبَّقناها سيكون طريقنا مُعبدا نحو الاستفادة من مخرجات الثورة الصناعية الرابعة، بل والتقدم بخطى ثابتة نحو مصاف الدول المتقدمة ومنافستها.

أولًا: منظومة تعليمية متطورة؛ فبناء نظام تعليمي (مدرسي أو جامعي) قائم على مفاهيم الابتكار، ومستفيد من الذكاء الاصطناعي، ومعتمد على عقول فذة تحيا يومها بروح مفعمة بالهمة والنشاط واكتشاف المستقبل. يتطلب كل هذا أنْ نُؤسِّس مدارس تكنولوجية، تعتمد في الأساس على تدريس محتوى تقني للنابغين في مواد العلوم والحاسب الآلي بالمرحلة الابتدائية، ومن ثمَّ يبدأ هؤلاء الطلاب النابغون دراسة تقنية متخصصة بدءا من الصف السابع وحتى الصف الحادي عشر. والهدف من هذه المدارس التخصصية، زيادة الجرعة التعليمية التقنية (لنقُل 70%)، أما نسبة الـ30 في المئة الأخرى، فتكون للغة العربية والمواد الثقافية مثل التاريخ والجغرافيا وغيرهما. ومع إتمامهم لمرحلة التعليم المدرسي، تكون بانتظارهم مُؤسَّسات تعليم عالٍ متخصصة، تبدأ معهم من حيث انتهوا؛ فمن الغريب أنْ نجد مُؤسسات تعليم عالٍ الآن تدرس لطلابها "مبادئ الحاسب الآلي" أو "التعامل مع الملفات"... وغيرها من الأمور التي لم تعد بحاجة للتعلم أصلا.

الطلاب المُنتسبون لهذه المدارس التخصصية، سيدخلون المرحلة الجامعية وهم مُتقنون للغات البرمجة الحديثة، وما عليهم سوى الدخول إلى مراحل أكثر تقدما، ومن ثم تأسيس شركات طلابية ناشئة في مجالات التقنية والابتكار، وأُجزِم بأننا لو طبقنا مثل هذه الأفكار سنجد كل 3 طلاب لديهم مشروعهم الخاص؛ إما ابتكار "روبوت"، أو تطوير برنامج يعتمد على الذكاء الاصطناعي، فضلا عن التحكم في الكثير من شؤون حياته عبر هاتفه الذكي، بفضل تقنيات إنترنت الأشياء.

ثانيًا: توفير التمويل اللازم من الحكومة والقطاع الخاص؛ حيث إنَّ غياب التمويل يُمثل العائق الأكبر أمام أي تطور تقني؛ فلم يعد مقبولا أبدا أن نجد ضَعْفًا في إمكانيات التطور التقني، بل على النقيض تمامًا، على الحكومة والقطاع الخاص العمل على توفير الموارد المالية اللازمة لدعم الأفكار التقنية، فكما ذكرت الأمر لم يعد ترفا، وهنا أشير إلى أنَّ الصين -مثلا- تستحوذ على نصيب الأسد من سوق الألعاب الإلكترونية، وقد حقَّقت شركات الألعاب الإلكترونية في الصين أكثر من 38 مليار دولار أرباحا، تليها الولايات المتحدة بنحو 30 مليار دولار، ثم اليابان بـ19 مليار دولار، وذلك بفضل البيئة المواتية والتمويل غير المحدود للأفكار والإمكانيات والعقول المبدعة، في حين أنَّنا هنا ما زلنا نعتبر الألعاب الإلكترونية ترفًا ورفاهية ومضيعة للوقت، رغم أنها تحولت إلى مورد اقتصادي مهم يدر عوائد مليارية للدول.

ورغم ما تقدِّمه مؤسسات حكومية في بلادنا؛ مثل: الصندوق العماني للتكنولوجيا، ومركز الابتكار الصناعي، وواحة المعرفة...وغيرهم، من دعم وتمويل للأفكار التقنية، إلا أنها تظل محدودة ومحصورة في نطاق ضيق، وعدد المشاريع التي نجحت في الخروج إلى النور تُعد على أصابع اليد الواحدة، وأغلبها تطبيقات خدمية تعمل كوسيط بين البائع والمشتري. إننا نريد أن نرى رأس المال المغامر في قطاع التكنولوجيا، أن يتبنى جهاز الاستثمار العماني مجموعة أكبر من الأفكار الواعدة؛ من خلال ضخ استثمارات وفق خطط قصيرة ومتوسطة المدى؛ من أجل تحويلها إلى مشاريع ذات عوائد مالية مجزية، وهنا لا حرج في الاستعانة بكوادر من الدول المتقدمة لتقديم النصح والتوجيه لعقولنا المبدعة، التي تحتاج -إلى جانب الدعم المالي- الدعم الفني والرأي التقني القائم على خبرات ما زالت إلى الآن غير متوفرة في بلادنا.

وبالتوازي مع جهود الحكومة، على القطاع الخاص -لا سيما البنوك والشركات الكبرى ذات الأرباح السنوية المرتفعة- أنْ تُخصص نسبة ولو 1% من أرباحها لدعم الابتكار، وتبني مشاريع ابتكارية تضعنا في مرتبة التنافس مع كبرى الدول المتقدمة في هذا المجال، على أنْ يكون هذا الدعم جادًّا وصادقًا، وليس للترويج والدعاية.

ثالثا: سوق عمل يستوعب خريجي التخصصات التقنية؛ فمن المُحبِط للغاية لخريجٍ درسَ في الخارج وتعلَّم الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، ألا يجد فرصة عمل له في وطنه!! ويكون البديل العودة إلى حيث أتى، رغم أنَّ الدولة أو القطاع الخاص أو حتى أسرته قد أنفقت عليه للدراسة في الخارج، ومن ثم العودة للوطن لتطبيق ما تعلمه من علوم متقدمة. فما زال سوق العمل -بشقيه الحكومي والخاص- ينظر إلى خريج تقنية المعلومات (مهما كان التخصص نادرا ومتقدما) باعتباه "مهندس حاسب آلي"، أو في أفضل الأحوال "مسؤول تقنية المعلومات"؛ الأمر الذي يفرض الحاجة الماسة إلى تأسيس شركات متخصصة في البرمجة التي تدخل في كل جوانب حياتنا، وشركات أخرى متخصصة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، بدءا من كاميرات المراقبة وحتى إدارة محطات الطاقة وتسيير الشؤون العامة.

لا شك أنَّ ثمَّة جوانب إيجابية نراها من حولنا، لا سيما بعد تأكيد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- على إيلاء الابتكار والبحث العلمي عناية كبيرة، فضلا عن الاهتمام بتطوير سوق العمل، وهنا الأمانة تفرض علينا الإشادة ببرنامج "خبرات" الطموح الذي يستهدف تأهيل 10 آلاف باحث عن عمل لسوق العمل، مُسلَّحين بمهارات المستقبل، ليس فقط من حيث الأدوات، ولكن أيضا فيما يتعلق بالتفكير الذاتي لكل مُتدِّرب؛ فقبل أن نوفر الأدوات اللازمة علينا تغيير ثقافة العمل ورؤية الموظف/العامل لوظيفته، فهي ليست مصدرا للرزق وحسب، بل إنها طريق لتحقيق الذات والنجاح في الحياة المهنية.

ختاما.. إنَّ العالم المتسارع من حولنا يُحتِّم علينا التحرك فورًا نحو التحلي بمهارات المستقبل؛ فالمستقبل لم يَعُد يعني "اللحظة التالية"، بل إنَّ المستقبل بات الحاضر الذي نعيشه ويتغيَّر بسرعة هائلة، فمن يُصدِّق أن هناك خدمة رقمية توفر إمكانية رؤية الموتى يتحرَّكون من خلال الذكاء الاصطناعي، الذي يعتمد على تحريك عضلات الوجه والجسد من الصور الثابتة القديمة، باحترافية مذهلة بل أراها مرعبة!! فهل أدركنا أين نقف الآن؟!