وثائق ومحفوظات!

يوسف عوض العازمي

"التاريخ يُعلِّم الإنسان الدروس، ويجعله أكثر وعيًا وأقدر على اتخاذ الخطوات المناسبة" - عبد الرحمن منيف

أهم أدوات حفظ الأحداث هي الوثائق الدالة الموثقة للحدث، والتي فيما بعد تصبح من المحفوظات الموثقة لذات الحدث، بالطبع أحدِّثك عن أي حدث وليس حدثا بعينه، وإن تحدَّثنا عن مفهوم الحفظ والوثائق على مستوى العلوم، فسيكون أمامنا علم التاريخ بالواجهة الذي تنبع أهميته لأنه يوثق ويسند القول والفعل ويحفظ ما جرى في حدث ما، وغير ذلك من الأهميات المعروفة من حيث حفظ التوثيق والفهرسة وحفظ وتأمين واسترجاع الوثائق والمستندات إلكترونيًّا وأحيانا يدويا إنما في أضيق حال.

هنا.. أتصوَّر أو أتخيَّل أنَّ أي وزارة أو مؤسسة أو هيئة أو حتى شركة في القطاع العام أو الخاص استحدثت قسما أو إدارة أو وحدة -سمِّها ما شئت- لحفظ الأوراق حفظا توثيقيا مُرتَّبا؛ بحيث يكون سجلا تاريخيا محفوظا للإدارة ويبقى الحفظ مستمرا، وبالإمكان أنْ يكون الحفظ آليا وإلكترونيا وأرشفة الأوراق والعقود بشكل منظم بطريقة مناسبة لإمكانيات الجهة العاملة بهذا النظام.

ومن مظاهر الاحتياط الواجب، عمل عِدَّة نسخ آلية لكل توثيق وجعل كل نسخة لها رقم معين ورمز مشترك دال عليها، وتوزع النسخ على أكثر من مقر لدواعي الحفظ والأمان، تحسُّبا لأي ظروف خارجة عن الإرادة أو فوق القدرة كحريق مثلا، فتكون ذات النسخة موجودة بأمان بمكان آخر.

وفي بداية أيام الغزو العراقي الغاشم على الكويت، كانتْ هناك مشكلة كبيرة في حفظ وحماية بيانات الدولة ومنها السجل المدني أو ما يعرف بالبطاقة المدنية، ومن فضل الله ونتيجة الحفظ والتوثيق الممتاز تمت حماية السجل كاملا، وبالتالي حفظ بيانات على درجة قصوى من الأهمية، بسبب الجهود الكبيرة والشجاعة لرجال ونساء كويتيين قاموا بالمهمة الصعبة، وهنا تَبِين أهمية الحفظ والتوثيق حتى على مستوى الدولة، وأيضا بالكويت هناك عدة جهات تهتم بتوثيق التاريخ الكويتي؛ وأهمها مركز الدراسات والبحوث الكويتية، وهو أحد أهم مراكز البحث في التاريخ الكويتي، ودائما الدول المتحضرة ذات النظرة البعيدة تهتم اهتماما كبيرا بتوثيق التاريخ الحقيقي لها، ولا تدع هذه المسئولية الجسيمة لأطراف أخرى قد تكتُب التاريخ بناءً على أيديولوجيات أو وجهات نظر معينة قد تنقل التاريخ بشكل غير متوازن، وتنشر ما تريد وتتكتم وتتجاهل ما لا ترغب به، لذلك تنبع أهمية أنْ يكون لدى كل دولة مركز أو هيئة أو مؤسسة تتبع مؤسسة الحكم يناط بها حفظ التاريخ وتوثيقه بشكل علمي وموثوق.

حتى على نطاق الجهات الأصغر أو ممتلكات الأفراد، فإنَّ الحفظ المستدام للوثائق لا شك يعدُّ مهمة صعبة وليست سهلة وتتطلب إبداعا وهمَّة في العمل، وهي حفظ لأطوار تاريخية لذات الجهة الموثقة؛ فالتوثيق والحفظ له أهمية قصوى حتى على أقل الجهات درجة، سأعطيك مثلا يدل على أهمية التوثيق بالجهات ذات الحجم الصغير، قبل سنوات وعلى طريقة: إن خسر التاجر فتش بأوراقه القديمة، كان هناك صاحب بقالة صغيرة للمواد الغذائية يعمل بها منذ سنوات، ثم تغيرت أحوال العمل بالبقالة، وزادت الخسائر فقرر بيع المحل لعدم قدرته على تسديد الديون، ثم نصحه أحد أصدقائه بأنْ يفتح دفاتره القديمة المحفوظة عنده وفيها أسماء من يطلُبهم بالمال أو البضائع أو ما إلى ذلك في الظروف المشابهة، لعله يجد مدينين يستطيعون تسديد ما عليهم؛ إذ يكفي الصبر عليهم سنوات (كان صاحب البقالة كريما يتغاضى عن كثير ممن لم يسددوا ما عليهم من ديون). وبالفعل ذهب للدفاتر القديمة وعندما بدأ الحسابات وجد أنه في حال تسديد ثلاثة أرباع الحساب الدائن سيكون وضعه ممتازا، وبدأ الاتصالات وقدر الله له تيسير الأمر وتسهيله، إذ لولا الله ثم حفظ وتوثيق الدفاتر لربما بيعت البقالة والله أعلم ما الذي سيحدث بعد ذلك.

من لا يحفظ تاريخه لا يتوقع أن يحفظه أحد له، إلا لمصلحة، قد تغير في سطور التاريخ وصفحاته بما قد لا يتناسب والتاريخ الحقيقي، وفي ذلك غَبَن وظُلم لا يقبله عاقل؛ فالأمم المتحضرة هي من يتولَّى حفظ تاريخها وحمايته، ولا تتركه لمرتزقة أو بائعي معلومات لمن يدفع أكثر... وياليتها ذات مصداقية!