"شِي قِيتْ"

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

حملت على ظهرها قربة خاوية صنعتها يوماً من جلد الماعز، وعلى رأسها صُرة كبيرة من القماش بها بعض الثياب وأدوات تحتاجها في ترحالها الدائم، وبيدها اليسرى أمسكت عصى تهش بها أغنامها الهزيلة، فليس لها من حطام الدنيا ثروة غيرها.

أمسكت يد الطفلة الصغيرة طرف ثوبها المجعد تشده لتجذب انتباه أمها، نظرت لها وسألتها: "كيت؟" - أي ماذا بك؟

الصغيرة "تلفك" بمعنى جائعة، اقتربت الأخت الكبرى والتي تبلغ ستة أعوام، تلهث من الهرولة، تحمل على ظهرها أخاها الأصغر، الذي لم يتجاوز عامه الثالث بعد. كانت تشد صُرة أُخرى حول كتفها الأيمن، وكلما تحركت يرتفع وقع ارتطامٍ معدني لأبريقٍ أسود مهترئ، حُفظ بداخله أربعُ تمرات، كأنها تميمة تحرسهم من شرور النفس وخذلان الصبر والجوع الكافر. إنهن آخر ما تبقى بجراب التمر الذي تحيط به بعضٌ من الخِرق البالية، يحتاجونها لتضميد تقرحات أقدامهم من السير طويلاً وهم حُفاة فوق الحجر والأشواك.

أنزلت الأخت الكبرى أخاها الأصغر وجلست على الأرض تنظف راحة قدمها مما علق بها من حصى الأرض، وقالت لأختها الجائعة: "شِي تور، هوش" - أي: معي تمر سأعطيك. قلبت الأم نظرها في السهول الفسيحة والخاوية، ورفعت رأسها إلى صفحة السماء المكفهرة بالسواد والعابسة كوجه دائن يفر من الديان، ثم أطرقت برأسها تنظر إلى الأرض، سحبت نفساً عميقاً و قالت: "أَضِيْ مُوسىْ" - أي: أشُم المطر.

حثت الأم أطفالها على إسراع الخُطى، فالمطر لا ينتظر أحداً ليستعد ويحتاط. هشت على رأس مالها الوحيد والثمين، وأحكمت السيطرة على الصُرة فوق رأسها، وتيقنت أن القربة الخاوية لا تزال في مكانها، أكملوا رحلتهم في بطن الوادي، بحثاً عن كهف قريب تلوذ به من ظنون الليل وشره ومن أدمع السماء التي توشك أن تنهمر، ورياحها الباردة التي بدأت تشّتد. أسرعت الكبرى بالمشي خلف أمها، وأخوها الأصغر على ظهرها يشاكسها، فيمد أصبعاً يبحث عن منفذ للصُّرة التي على كتفها، فتمرة واحدة لا تشبع عصافير بطنه. صاحت به أخته مستنكرةً فعلته، الطمع عادة سيئة ستفسده لاحقاً. كانت تقف الفتاة بين حين وآخر عن المشي وتجمع في كفها النحيلة بعض الأغصان اليابسة، وتحدق بتوجسٍ حذر لتكتل السحب السوداء، فكرت بعقلها الصغير أنَّ السماء ساخطة وستقرعهم بعصاها المضيئة، نظرت الفتاة إلى الأغصان الجافة واليابسة، وقالت في نفسها إنها لا تكفي لإشعال النار ليلاً.

قُسم الملاذ بعد العثور عليه إلى قسمين، تحصنت الثروة في عُمق الكهف، وشرعت الأم تجمع الحطب وجذوع الشجر اليابسة والحشائش رصَّتها على شكل حاجز هلالي الشكل ليحرس الغنم، فلا تفر إحداهن وتتسلل دون علمها.

وكعادة الأطفال، بدأت معركة بين الأخ وشقيقته التي تكبره بعام، ولم تستطع الكبرى فض النزاع بينهما إلا بعد سماعهم زمجرة السماء وسريان البرق الساطع بين قمم الجبال الممتدة على مدى البصر.

دلفت الأُم إلى الكهف ومعها حصيلة كبيرة من الحطب والأعشاب، تحملهم على ظهرها تلفهم بخرقة من القماش، قالت بغبطة: "شيّْ قيت" - معي طعام، ابتهج الأطفال وتجمعوا حولها بفرح. أخرجت الأم قطعة قماش صغيرة مطوية بعناية ومربوطة بأحكام، كانت قد دستها في كيسٍ صغير تخبئه داخل ثوبها، فكت الأربطة بعناية وكشفت عن ثمار "التين" أعطت الأم أصغر ابنائها الحصة الأكبر؛ مما أثار حنق وغيظ شقيقته ذات الأربعة أعوام، فبكت ثم توقفت عن البكاء بعد أن قالت لها الكُبرى إنه يُمكنها الحصول على حصتها، فهي ليست جائعة.

حملقتْ أربعة أعين غائرة وذابلة بالأم، وسؤال واحد يكاد يفيض من أعينهم: هل سنشبع اليوم؟. ابتسمت الأُم وتحسَّست بنظرتها جدران الكهف البارزة والمتعرجة، وطمأنت أبناءها بأنها ستُعد لهم الطعام الذي تحمله في القِربة، وما الثمار إلا تصبيرة. ضرب الهزيم وهطلت الأمطار تضرب الأرض كحوافر خيل مُحارب مسرعة خلف عدوٍ فرّ. أخفضت الكُبرى رأسها وحملقت بأصابع قدمها المتسخة من الهرولة بتوتر، هي تعلم أن كذبة أمها قد انطلت عليهم وليس عليها، خفق قلبها الصغير مدركاً أن باب المجهول فُتِح.

حسيس النار المُتقدة والأطفال نيام -على أملٍ بالشبع- فوق فراشٍ من الحشائش مغطى بالثوب الذي يستر الأم، وثوب آخر يدثرهم برودة الليل والمطر. وضعت الأم غطاء رأسها "اللوسي" على كتفيها تتأمل ألسنه النار. لانت خطوط وجهها المجهدة وكَسا الحزن تجاعيد وجهها، حدثت نفسها الوجلة تُؤنس وحشتها، وتفضفض لها عن مخاوفها، لعل شيئًا من الخوف المسجى على كاهلها يتبدد.

هل سأصِل غداً إلى وجهتي المنشودة، أم سيهلك صغاري جوعاً وعطشاً أثناء سيرنا الطويل؟ وإن نجونا من الأشرين: هل سننجو من هوام الأرض ووحوشها الجائعة؟ سقطتْ قطرة مالحة بطول خدها المنهك، دمعة مُرتابة وحائرة تتمنَّى النجاة. رمقت الفتاة الكبرى أمها وهي تمسح غَيضًا يفيض بلا هوادة براحةِ كفِّها. دست الابنة وجهها تحت الثوب تحجب بيدها اليمنى وجهها مُتحاشية النظر لأمها، حتى لا تحس النائحة بمن يسترق النظر، لا يجوز اقتحام خلوتها ونجواها المرتبكة مع السماء والليل والسُّحب المطيرة، أشبعها القلق والخوف من المجهول الذي يقبع في جوفها، وزخم قرع الأمطار الغزيرة في بطن الوادي كطبولٍ تنذر بسيلٍ قادم.