ابني في ألمانيا

 

عبدالله الفارسي

للأسف أنني لم أزر ألمانيا حتى اليوم، ولكن لي صديق ذهب للدراسة وعاش فيها اثني عشر عاماً حتى اضطر والده أن يُرسل له اثنين من إخوته واثنين من أبناء عمومته فتيان أقوياء مفتولي العضلات ليحضروه إلى الوطن بالقوة، فاحضروه مكبلاً بالحبال.. وأوَّل ما وصلوا إلى البيت كان إمام المسجد جالساً ينتظر وصوله في مجلسهم الكبير وقبل أن يخلع حذاءه أو حتى يلتقط أنفاسه عقدوا قرآنه على فتاة لا يعرفها ولم يتمكن من رؤية أنفها ولم يتعرف على لون عينيها.. فقضوا على حياته ودمروا مستقبله..!!

وقبل أيام التقيت صديقا عزيزا، نحمل نفس الهموم، ونتبادل نفس الأفكار ونتجرع ذات العذابات، سألته عن ابنه الذي يدرس في ألمانيا منذ ست سنوات ونيف، فأجابني قائلاً: الولد بخير وفي وضع ممتاز لكن للأسف.. ثم صمت! فتوجست خيفة من صمته، وقلت له: خير إن شاء الله ماذا هناك؟ عسى ألا يكون مريضا؟

قال لي بحزن وأسى: إنه بخير ولكنه لا يرغب في العودة إلى الوطن، فتنفست الصعداء.. وقلت له يا رجل ولماذا تنطقها كأنَّها لعنة أو مصيبة أو كارثة؟

قال لي: الولد يُريد أن يستقر هناك إلى الأبد.

قلت له: والله لقد أبهجتني، إنه ولد عاقل وذو بصيرة، ويملك بعد نظر دقيق، دعه يعيش هناك، سبع سنوات وهو يدرس الهندسة في أفضل وأجمل بلد في العالم، لذا ليس من السهولة حين تعيش في دولة مثل ألمانيا أن تتركها وتُغادرها، تلك الدول الفاتنة تمتلكك، تجثم في داخلك، تعيش في روحك، تسبح في شرايينك، تلتصق في وجدانك.

ابنك يعيش في ألمانيا وألمانيا تعيش في داخله، لذلك من الصعوبة بمكان أن يبتعد عنها ابنك تخصصه عميق ووظيفته مضمونة ومستقبله مشرق ولكن ليس هنا بل في ألمانيا،هنا تشرق الشمس يوميا، لكن في ألمانيا لا تشرق الشمس كل يوم بل يشرق المستقبل كل يوم.

لماذا تريد من أبنك أن يعود؟ ماذا تتوقع أن يجد هنا؟ هل سيستقبلونه بالأحضان؟ هل سيفرشون له الأرض باللوز والجوز والفستق؟

أطلق لابنك العنان كيفما يشاء، دعه يتخذ قراراته بمحض إرادته.. دعه يفرد جناحيه للريح ويحلق بهما أينما أحب وأراد.. دعه ينقش أحجاره بأصابعه، دعه يزرع أزهاره بيده ويسقيها بعقله وقلبه ووجدانه.

دعه يخوض غمار الدنيا في جانبها المشرق وعالمها الأخضر الجميل، دعه يختار الأرض التي سيضع فيها بذوره، ويجني منها محاصيله وثماره..هذه حياته، وهو من يُقرر كيف يعيشها.

فأخذ يجادلني جدالا طويلا هزيلا وعقيما. فقلت له: يا رجل دع الولد يُقرر حياته بنفسه، دعه يعيش في تلك البلاد الساحرة، دعه يعيش ويستمتع بحياته حتى يشبع ويكتفي وإذا اكتفى وشعر بالملل من تلك الجنة لن يكون أمامه سوى العودة إلى وطنه والارتماء في أحضانه، وطنه مغروس هنا لن يختفي ولن يتزعزع، ولو عاد بعد خمسين عاماً سيجد وطنه الحبيب كما هو لم يتغير فيه شيء!

دعه يعيش مع شعوب راقية وأمم مُتقدمة، دعه يتلذذ بالقوانين ويستنشق الحقوق ويُمارس الحريات بكل ملامحها وبياضها وروعتها وجمالها.

دعه يتزوج فتاة أوربية ذات عينين زرقاوين أو خضراوين، كأنها حورية من حوريات الجنة، دعه ينجب لك أحفادا زرق العيون صفر الشعر طوال القامة عباقرة العقول، دع أحفادك الشقر يعانقونك ويحدثونك عن تاريخ ألمانيا وعظمتها وجمالها ومفكريها وفلاسفتها وعقولها وصناعاتها.

دع الولد يُحسِّن نسلنا، ويطور عقولنا، ويرتقي بضميرنا، ويلمع صورتنا القبيحة وسمعتنا الباهتة. دع أحفادك الشقر يثرثرون مع أقرانهم الألمان عن جدهم السندباد الذي غرق في أعماق البحار، وسرقت جثته حورية بحر فاتنة وعرضتها على أمير الجن، فأحياه وتزوجها فأنجب منها أبالسة وشياطين!!

ياصديقي: دع ابنك يوثق العلاقات العمانية الألمانية ويربطها برابطة الدم والنسب لعل يوماً ما تأتي جمهورية ألمانيا وتعطف علينا وتنقذنا من بعض مصائبنا وتعالج لنا الكثير من أمراضنا.

دع الولد يعيش حياة حقيقية ولا تحرمه من تلك الجنة التي أرسله الله إليها. وإذا أكتفى من الكرز والفراولة والتفاح والكمثرى والأزهار والورود والعشب والثلوج، سيعود للشمس والجفاف والعرق وسيتجرع المرارات المتوافرة والمتكدسة معنا والتي ستكون بانتظاره لا محالة.

ونصيحتي لك أنت أيضاً أن تذهب وتعيش معه، وأن تأخذ زوجتك المسكينة معك، دعها تعرف بأنَّ هناك جنة في الأرض قبل أن تموت، اذهبوا استمتعوا بحياتكم الباقية هناك، اذهبا وشاهدا مدنا مصنوعة من الروعة مسبوكة بالخيال، تجولا في برلين وهامبورغ وميونخ وفرانكفورت ودوسلدورف وشتوتغارت وهايدلبرغ. مدن مسيجة بالغابات مغطاة بالضباب مفروشة بالعشب مغسولة بالغمام، مدن وكأنها قطع مسروقة من الفردوس، زوروا تلك المصانع الشامخة وتلك المرافق الساطعة، وكحلوا عيونكم بتلك الأعجايب النادرة.

امشوا في غابات ألمانيا الكثيفة، وتمددوا على أكتاف هضابها الحانية الهادئة، واغتسلوا من أنهارها الصافية، ستتخلصون من الضغط والسكري وستختفي الدوالي من أقدامكما، وستتنظف شراينكما، وستتخلصا من الكآبة والحموضة، وسينتظم نبض قلبيكما، وستتفتح شهيتكما للحياة وستعودان شابين يافعيين.

وإذا لم تكن الجنة من نصيبكما لا قدَّر الله ستكونا قد رأيتما بعضاً من الجنة في حياتكما الدنيا!!

أرجوك يا صديقي.. أرجوك.. ثم أرجوك.. لا تحكم على ابنك بالتعاسة والشقاء، عمره الآن 27 عاماً كم سنة سيعيش؟ 40 سنة أخرى؟! دعه يعيشها هناك في ألمانيا الجميلة ألمانيا البهيجة. فمثل هذه الفرص النادرة لا تأتي إلا مرة واحدة في العمر.

دع ابنك يعيش في ألمانيا الفاتنة.. دعه يشعر بالحياة الحقيقية.. دعه يتطور ويرتفع ويتقدم ويعيش في عالم مختلف ودنيا رائعة يموت المئات سنوياً غرقاً لأجل الوصول إليها، ولا تجبره على اتخاذ قرار سيندم عليه طوال حياته، والله لو كان ابني في ألمانيا لبعت بيتي المتهالك وسيارتي الحقيرة وحملت حقائبي الممزقة وأغراضي المكركبة وطرت إليه دون تفكير في أوبة أو قدوم، ودون رغبة في عودة أو مآب.

أرجوك ياصديقي: لا تجعل أبنك يكرهك يوماً ما ويقول: هذا ما جناه أبي عليَّ * وما جنيت على أحد.