شموخ ابنة الشمس

 

عائشة بنت أحمد البلوشية

شموخ الجبال قمم، وشموخ النخيل عزة، وشموخ القلاع مجد، وشموخ الإنسان العماني عظمة، والشموخ لا يموت بل يبعث الحياة في ما ومن حوله، يخلد وراءه إرثا عظيما تتوارثه الأمم إلى ما يشاء الله.

ركبت السيارة في الصباح الباكر وزرت قبرها، ثم ودعتها على وعد بزيارتها في اليوم التالي، وذهبت لا شعوريًّا إلى "دروازة" بيت النخل، لأمضي في تلك الدرب الحبيبة، وأترجل بعد أن أوقفت هدير محركها أمام ذلك المنزل الحميم، وقفت برهةً مغمضة العينين، لأنعم بذلك الهدوء الروحاني وسط تلك الباحة البسيطة جدا، المحرومة من ظل النخيل الكامل.

وتركت لأقدامي دفة الحركة تسيِّرني إلى تلكم المرابع، ليتناهَى لي صوت من عالم البرزخ، صوت أحبه بكل خلجات روحي، يقول لي: "اذهبي إلى عابية عبيد، وتأكدي من الأمبا إن كان قد أزهر"، وبالفعل ذهبت إلى تلك "العابية" التي كانت قَفْرَاء خربة، قبل أن تحولها هي إلى جنة مثمرة، لوهلة رأيتني وأنا ابنة ثمانٍ، أركض خلال النباتات الكثيفة فيها بعد زراعتها للمرة الأولى، حاملة قرون اللوبياء ملء "ثباني" وأفرغه في "القفير" أمامها، وأعود إلى الحاضر أُكمل المسير تحت تلك الظلال الوارفة، لأَصِل بعد أن مررت بباب "الصباح" إلى "البيت العود"، ذلك الصرح الطيني الذي يمتزج بأصوات آتية من دوائر الزمان البعيد قربا، تتمازج أصوات أسرة الشيخ سالم بن راشد الكبيرة وأسرة الشيخ ناصر بن سعيد، ويتناهى إلى سمعي صوت جدتي غاية وهي تنادي على ابنتها -جدتي الحبيبة- بأن تأتي بـ"المشبة" لتضرب الصغار المسببين لهذه الجلبة؛ وقفت مُتأملة ما بقي من أثر تلك الغرفة العلوية التي ضمَّتني وإياها في بيت أخيها، الذي كُنت أراها في قوته وصلابته، وأراه في حنانها المستتر خلف ذلك الصمود الأبي، لتنحدر دمعة دامية مسحتها بإصبعي حينما تذكرت آخر ما طلبته قبل وفاتها بثلاثة أيام أن تخضب يديها بالحناء، لترحل عن دنيانا مخضبة اليدين، ولا أدري ما الذي جعل أبيات قيس بن الملوح تسري في روحي حينها:

"ولمَّا تَلاقينا على سـفحِ رامَةٍ **

وجدتُ بنان العامريَّةِ أحمرا

فقلتُ خضبتِ الكفَّ بعد فراقنا؟**

فقالت: معاذ الله، ذلك ما جرى

ولكنَّنِـي لــما وجدتُكَ راحلاً **

بكيتُ دماً حتى بللـت به الثرى

مسحت بأطراف البنانِ مدامعي**

فصار خضاباً في اليدين كـما ترى".

مُذ عهدتها قوية الشكيمة تُدير الكوادر البشرية كأفضل مدارس القيادة، وتسوس الموارد كأفضل من ساسها، تقف مع بزوغ الخيوط الأولى لأشعة الشمس متابعة نمو "القضيم" (السنابل) على سيقان "البر" (القمح)، لتقطف أول باقة "قصود" وتهديها لنا، متأكدة من وصول مياه الفلج إلى "ودين" كل "جلبة" دون أن تعيقه "الفرفينة أو الحواء أو الشويرينة أو سيف الجن"، علامات الارتياح ترتسم على وجهها الجميل عندما ينتهي "ولاد عون" من "خلب النخيل وقشبها"، فتقول النخلة كالعروس يجب أن تتزين في كل موسم بكامل زينتها، ويجب أن نُعامل الضواحي كالحلوى، أي نراعي أبجدياتها حتى تكون في "دستها" شهية طعما ولونا، تتابع تفاصيل التفاصيل باهتمام منقطع النظير، تسعد بأول بواكير "الطلع"، وتكون أسعد من يبشرنا بـ"الغيض" الذي نعشق أكله، بل لا تتذوقه قبل أن تتأكَّد أننا نلنا من شماريخه اللذيذة، وتهنأ روحها بأول أزهار "بل" النارنج، نهاراتها مليئة بالعمل الدؤوب، تجتمع مع "عقيد" الفلج لبحث مُستجدات "قعد" الماء، كل هذا و"لجن السح" ودلة القهوة تنشُر عبقها مع انبلاج نور النهار، فيمر "البيادير" لارتشاف فناجين القهوة قبل المضي إلى ضواحي النخيل، "يولمون اللجائل" كل حسب وقته، كلما نظرت إليها أحس وكأنها تقف على قمة جبل تنظر إلى ما يدور في بطن الوادي الأخضر، وتحدد "عذق البيدار" في كل نخلة، وتحسب عدد "نفت" العسل في كل ضاحية، لا تفوتها شاردة ولا واردة، تتأكَّد أنه لا توجد بقعة تخلو من فسيلة نخل، أو "قورة" شجر مثمر، أو أي نوع من الأعلاف، وهل "وفد القت" وحانت ساعة "جزه"، ولن أنسى حرصها الشديد على غرس ياسمين "أبو وريقه" والورد العماني؛ حيث يصل بصيص من شعاع الشمس، هذه المرأة التي استمرت في العطاء بلا كلل، هي ذاتها التي تناولت بندقية "الأيفن" من غرفتها عندما ركضنا نبلغها عن الحريق الذي شب في عريش الجيران؛ لأنها الطريقة الوحيدة للإعلان عن حالات الخطر، هذه المرأة القوية كان إطعام الطعام، أو توزيع الثمار أو المحاصيل لجيرانها، وكل من تستطيع إرسالنا إليه صغارا، أو من يدلف متقهويا إلى المنزل هو أحب الأمور إلى نفسها.

خرجت "الطارقة" يوم الإثنين الخامس والعشرين من يناير، والشمس تنشر أشعتها الذهبية تلوح مودعة "ابنة الشمس" إلى مسكنها الأخير إلى يوم يبعثون، مصافحة "السباعية" التي تغطي ذلك الكفن الغالي، تزفها ترانيم النخيل، وتواشيح ضواحي وسواقي فلج "العراقي"، وهمهمة ذلك النسيم البارد العليل، رحلت وابتسامة الرضا تعلو ذلك المحيا الصبوح بأن شموخها أمام الأيام لم ينحني، رحلت بهدوء وسكينة، حيث فاضت روحها، منسلة وكأنها خيط من حرير إلى بارئها، رحلت الشيخة موزة بنت راشد بن سعيد البلوشية في موكب ملائكي مهيب، امرأة بمائة رجل في الهمة وقوة الشخصية والإرادة والعزيمة، رحلت إحدى أروع الأمثلة للمرأة العمانية الأصيلة الشامخة، وغصة فراقها ستظل في القلب جمرة لا تنطفئ أبدا.

---------------------------------------

توقيع:

"أصعب المواقف عندما يتركك من تحب بلا عودة، وتصبح مُضطرا لأن تقف بنفس الشموخ الذي اعتاده الجميع منك، وتغدو دمعتك حبيسة مآقيك".