حاتم الطائي
◄ توطين التكنولوجيا ضرورة ملحة لمواجهة "الإمبراطوريات الإلكترونية"
◄ فيسبوك وتويتر وواتسآب تجني المليارات دون استفادة الاقتصادات الوطنية
◄ على الشركات المحلية تخصيص نسبة من نفقاتها الإعلانية للصحف ومواقعها الإلكترونية
مع دخول الألفية الثالثة وانطلاق الثورة الصناعية الرابعة، ودخول العالم مراحل مُتقدمة من الذكاء الاصطناعي وتقنيات الروبوتات، وبعدها بسنوات إنترنت الأشياء، تزايدت الدعوات المُنادية بضرورة اللحاق بركب التَّقدم التكنولوجي، بل والمنافسة بقوة في ذلك المضمار، بفضل ما نملكه- سواء في عُمان أو دول الخليج والعالم العربي بشكل عام- من مواهب وكفاءات قادرة على صناعة الفارق، وما نشاهده من ابتكارات مُتقدمة للغاية ينفذها أبناؤنا في الغرب، خير دليل على ذلك..
وعندما نتحدَّث عن الحرب التكنولوجية، لا نقصد بها تلك الصورة النمطية للحرب المدمرة للبشر والحجر، بل هي الحرب القائمة على التنافس والسعي نحو التقدم، ورغم أنها تأخذ في جوانب شتى منها صورة الحرب الشرسة التي تُهدد الطرف الآخر، إلا أنها في حقيقتها وجوهرها حرب تنافسية، ومن المؤسف أننا ما زلنا خارج السباق العالمي، باستثناء بعض المحاولات الخجولة، والنماذج الأولية التي لم تتحول مطلقاً إلى خطوط إنتاج، وهنا أتحدَّث عن عدم إنتاج روبوتات وبيعها في الأسواق باعتبارها منتجاً وطنياً أو خليجياً أو عربياً، وحتى تقنيات إنترنت الأشياء، لم تعدو كونها تجارب أولية وأفكار نظرية، لم تجد الدعم والرعاية اللازمين لكي تتحول إلى واقع نستفيد منه ويخدم البشرية.
وما نُواجهه في الوقت الراهن من تحديات، لا سيما في ظل جائحة كورونا وما فرضته علينا من مصاعب وضغوط، يستلزم إعادة النظر جيداً في قضية توطين التكنولوجيا، وأن نعمل على ترجمة الاهتمام السامي من لدن حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- بالابتكارات والتطور التقني، ولا شك أنَّ مؤسساتنا الوطنية تعكف على تنفيذ التوجيهات السامية في هذا الخصوص.. غير أنَّ ما نحتاج إليه بدرجة كبيرة يعتمد على دور المؤسسات الخاصة في دعم وتمويل الابتكارات التكنولوجية، بل وإنتاجها وتصديرها للخارج.
أقول ذلك وكثير منِّا تابع ما جرى خلال الأسبوع الماضي من توتر بين أستراليا وشركة فيسبوك، عملاق التواصل الاجتماعي في العالم، حتى بلغ الأمر مبلغه وأعلنت فيسبوك منع ظهور المحتوى الإخباري على صفحات المستخدمين في أستراليا، احتجاجاً على قانون جديد يطالب شبكات التواصل الاجتماعي- وعلى رأسها فيسبوك- بدفع رسوم نظير ما تحصل عليه من إعلانات وما تُحققه من أرباح من الشركات الأسترالية، ويُجبر القانون فيسبوك على إبرام اتفاقيات تجارية مع المواقع الإخبارية أو الخضوع للتحكيم الإجباري للموافقة على مقابل المحتوى الإخباري. القضية أخذت تجاذبات عديدة، وصلت إلى ما يُمكن أن نسميه "قطع العلاقات" بين فيسبوك ودولة أستراليا، ما دفع الجانبين إلى التفاوض، وتوصلا مُؤخرًا إلى قيام الشركة بضخ استثمارات تصل إلى 3 مليارات دولار لتطوير المحتوى الخبري، ومن ثمَّ دعم وسائل الإعلام التي تعاني الأمرين، نتيجة شح الإعلانات- التي تعد مصدر التمويل الرئيسي لأي وسيلة إعلامية- وأيضاً بسبب المنافسة غير العادلة مع مطوري المحتوى الإخباري من غير الصحفيين، مثل الصفحات الإخبارية التي تنقل عن الصحف والمواقع المتخصصة دون مُقابل.
أين تكمن الإشكالية إذن؟
الحقيقة أن الإشكالية مع مواقع مثل "فيسبوك" و"جوجل" و"تويتر" وحتى تطبيقات مثل "يوتيوب"، أنها تنتهك سيادة الدول، وتطعن وسائل الإعلام بخناجر حادة، نتيجة سيطرتها على سوق الإعلانات، دون دفع دولار واحد ضريبة، أو حتى رسوم، بل إنها تزاحم وسائل الإعلام المحلية في حصتها السوقية. وهنا أودُ أن أضع بين يدي القارئ، المُقترح الذي قُدم في مجلس الدولة بعنوان "تنظيم الإعلان" عام 2019، وخرج بعدة توصيات، منها ضرورة إيجاد قانون يُنظم ويعمل على ضبط عمل السوق الإعلاني في السلطنة، والذي يتضمن الإعلانات الرقمية عبر المواقع الإلكترونية المختلفة وعلى رأسها العمالقة الثلاثة: فيسبوك وجوجل ويوتيوب!
والمعركة التي خاضتها أستراليا مع فيسبوك تُبرهن مدى القوة والنفوذ الذي باتت تتمتع بهما هذه الشركات العملاقة، والتي تعتمد في الأساس على تقديم محتوى ليس من صُنعها، بل هو من صناعة أطراف أخرى، لا ناقة لهم في الأرباح ولا بعير في العائدات. ولنا أن ندرك أنَّه بعد أن أقرت أستراليا القانون الجديد، اتخذت شركة فيسبوك- بكل عجرفة- قرارًا بحجب المحتوى الإخباري، ومضت الأمور في هذا التعقيد، حتى تراجعت فيسبوك وأعلنت عن نيتها استثمار ما يقرب من 3 مليارات دولار خلال 3 سنوات في قطاع صناعة المحتوى الإخباري في أستراليا، وهي خطوة سبق أن اتخذتها شركة جوجل.
وهنا نطرح مجموعة من الأسئلة الأساسية: لماذا لا تتخذ دول الخليج بل والدول العربية موقفاً حازماً مثل الذي اتخذته أستراليا، لإلزام فيسبوك وغيرها من شركات التكنولوجيا العملاقة، بالدفع مُقابل ما تجنيه من أرباح مليارية من داخل دولنا؟ ما الذي يمنع من ابتكار برامج تواصل اجتماعي خاصة بنا تتماشى مع قوانينا وتحترم خصوصيتنا؟ لماذا لا يُسن قانون لتحصيل ضرائب ورسوم من تطبيقات التواصل الاجتماعي التي تحصل على مئات الملايين من الدولارات من دولة واحدة فقط؟
لقد تضخمت إمبراطورية فيسبوك حتى صارت ما يشبه "الدولة" في الفضاء الإلكتروني، وباتت هذه "الدولة الافتراضية" تمارس الضغوط بل والإرهاب الفكري والاقتصادي على الجميع، والمُتضرر الأكبر أسواق الإعلانات المحلية في الدول، وخاصة وسائل الإعلام التي لا مصدر تمويل لها سوى ما تحصله من إعلانات لدفع الرواتب ومواصلة تطوير المحتوى.
إذن.. ما الحل؟
الحل يتمثل- كما ذكرت- في سن تشريعات منظمة لسوق الإعلانات، لاسيما الإعلانات الرقمية، والسعي الجاد والطموح نحو توطين التكنولوجيا، فلدينا العقول المبدعة التي طرحت الكثير من التقنيات العبقرية لكنها لم تجد الداعم والممول لتنفيذها على أرض الواقع، إلا ما ندر. علينا أن ننظر إلى النموذج الصيني في مواجهة "الإمبريالية الإلكترونية"، فالمستخدم الصيني للإنترنت لا يعرف جوجل ولا واتسآب ولا فيسبوك، لأنه يستخدم مُحركات البحث الصينية مثل "بايدو" وتطبيق "وي تشات" البديل للواتسآب، و"ويبو" البديل المماثل لتويتر أو فيسبوك، باعتباره شبكة اجتماعية ضخمة. ونحن هنا في المنطقة العربية؛ حيث يقترب تعدادنا من 380 مليون نسمة، يمكننا أن نؤسس لشبكة تواصل اجتماعي تضمنا جميعاً، ومن ثم كسر هيمنة المواقع العملاقة.
مثل تلك القضايا والمعارك تفرض علينا الاستفادة من دروسها، التي قد تتكرر في أي منطقة جغرافية، وليس فقط في أستراليا، والمنتصر فيها هو الأكثر تنظيماً والأكثر قدرة على مواكبة المتغيرات، بتشريعات حاسمة وقوانين صارمة، تحمي سيادة الدول، وتوفر الدعم اللازم لتمويل وسائل الإعلام والشركات الإعلانية الوطنية. يتعين كذلك على الشركات المحلية أن تضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، فهناك من الشركات المساهمة المدرجة في سوق المال، تنفق قرابة المليوني ريال سنوياً على إعلانات لصالح فيسبوك وجوجل وغيرها، دون أن تخصص ولو نسبة 1% للإعلان في الصحف، أو المواقع الإلكترونية الإخبارية المحلية، في صورة تعكس مدى الاختلال الذي تعاني منه سوق الإعلانات في بلدنا.
وختامًا.. إنَّ السعي لتوطين التكنولوجيا من شأنه أن يُحقق العديد من المنافع الاقتصادية والاجتماعية، والأمر ليس مُعاداة للعولمة، بل إنِّها تأكيد على حق الدول والمؤسسات في تنظيم اقتصادها، وسوق الإعلانات أحد أبرز أعمدة هذا الاقتصاد، وإذا ما استمرت الحال هكذا دون تنظيم واضح يمنح كل طرف حقه، ستؤول الأوضاع إلى نتائج غير طيبة، وستتحول شبكات التواصل الاجتماعي لوسيلة ضغط على الحكومات والدول بصورة أشد وطأة عمَّا هو قائم حالياً.. فهل نُبادر لحماية مصالحنا وسيادتنا؟