حُب العود

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندر)

ضفائرها الذهبية تغزل صوفاً في قيظ يونيو، وتتسرب أشعة الذهب تلمع بدفء يحيك خيوطاً من الغزل الصفراء في فناء المنزل، فتستيقظ شموس قلبي من سباتها وتدَبَّ الروح في دُرها الوضاء. يعانق عبق القهوة المحمصة ضفائر الشمس نشوانٌ بين حنايا وزوايا الدار العتيقة. ويداعب صوت السيدة فيروز المسامع بعذوبة: "سألوني الناس عنك يا حبيبي... كتبوا المكاتيب وأخدها الهواء.... بيعز عليّ غني يا حبيبي لأول مرة ما بنكون سوا "...

القيثارة الفيروزية تعزف أوتار الأماني وتحمل نوتات المُنى بين النسائم كطير جناحية من الزبرجد، ويتجه للأفق يضُّم بين جنباته قصصاً، تُحكُها صنارة الأحلام رافضةً الانصياع لقانون التفاحة.

رائعة فيروز المُغناة "سألوني الناس" تجاذب أُذن القلب فتنبلج أصباحُ الوله وتكسر الشموس وَجْدُ عينيها، لتُينع ورد وجنتيها شقائق للنعمان، فتأسر حاميها فيختال نفسه لعله يظفر بدوح الزهر وماءه. تَمَّدُ التمنيات كفها تهدد أُرجوحة قلبٍ فوق شُطْآن الغسق السرمدية. تلسعك لذه الهبوب الباردة، ويهز جذع البُكرة فتتدحرج قطرات الندى، وتختلط بأدمع الأحبار، فيخط القلم بها حكايةٌ مفرحة أو كدرة. وتهمس الهبوب وتناجي الورق، تحثها على حفظ الوعد وصون الودّ فلا يُفشي سر المحبرة لأحد.

الندى والقلم والحبر والورق، قد يُشاع سهرهم وقد تُذاع أخبارهم في يومٍ ما. وقد تُنسى قصصهم في درج النسيان، وحتماً سترفض الأحاسيس المتيمة الانصياع للنسيان فحب الحياة غريزة، ولكنها قد تموت بلا أثرٍ يُذكر. أبجدية الرسالة وإحساس المرسل وأمانة الرسول، هي منظومةٌ خالدة تعاقبت عليها الأجيال نظمتها شعراً أو نثراً أو تغنت بها فلكلوراً. أن ترى كل تلك القصص تعود للحياة وتهرب من ذاكرة النسيان، وأن تشاهد فنون التأمل، وارتفاع قوسي عاشق، ونشوة استراق النظر، وميل الثغر لمزحة. وأن تجتمع كلها في قطرة ندى وعين محبرة كأنها تغافل ذاكرة الأمس، تهرب من بطش السجان وأحضان النسيان. فكم من مكاتيب كتبت، وكم من حكايات وقصص واربتها بيبان الغفلة، وظلت حبيسة أحرف وعين محبرة.

أنصت لحديث جدتي إيزابيلا وفخامة الغناء والذي يضاهي عذوبة فيروز.....

"أطير نشل قطف

عق اغليل وفدّ

وحذر عر امروفي

وحرم طيّت خفد

وكلث هير اصدقت

عَمَر انشغل وقَتّْ"

أي "يا طير فارد جناحه.... مسكنك غيم وسحابة... أمنتك يا طير أمانة ولك عهد ودرب السلامة... السر اكتمه لا تفشيه غير للخل أبدية... بلغ المحب سلامي ما أظن بالغد لقاء مواجه"[1]

القصيدة رسالة شفهية مشفرة بين عاشقين نُظمت شعراً لتخبر الحبيب الذي يرقب موعد اللقاء بأن العاشق لن يتمكن من الوصول الى الموعد المحدد كعادته، وفيروز وأيقونتها "سألوني" قد كانت تعلم بسرهم فغنتها بعد قرن من الزمن، أو لعل أوجه العشق وملامحه في كل زمن تتشابه فلا تتغير.

بينما يُعتبر "الأيموجي" حالياً بمثابة حبر المحبة، و"البلوك" هو الدليلُ القاطع على قطع العلاقة. فالعشق كزوبعة في فنجان يثور، ويرعد، ويمطر في آنٍ واحد في قعر الفنجان. وإذ أنهيت قهوتك ستشعر أن مزاجك لم يتكيّف بعد، وأن روحك لم يتغلغل فيها العُود الكمبودي الأصلي. وقد تستعر حرب "الأيقونات" يوماً، فلا تقلق إن شاهدت كرة صفراء اللون –كمن يعاني مغصاً-ولها عينان على شكل قلبين، فهذا دليل حب أو إعجاب أو قد تكون ضحيةً لخطأ رقمي.

في حال نشب خلاف بين المحبين ستجد قلباً أحمر شُطر إلى نصفين، أي أنَّ الألم قوي لا يتحملة القلب الصغير. وفي أوقات الخصام ستغطي شاشة الهاتف الصغيرة كرة أخرى حمراء اللون كحبة الطماطم مُنتهية الصلاحية.

"جيل الهايبر والمولات..." هكذا تسمي حبيبتي إيزابيلا جيل الألفية، حياتهم مواسمٌ مسروقه بعجالة مستمرة ودائمة. كأن دنياهم مضمار سباقٍ للهجن، وهم الطامحون للناموس، والفوز الساحق، فلا يتجاسرون على الالتفاف والنظر والتأمل حولهم، كي لا يحصد خسارة فادحة.

تُسحق حقول الياسمين وتهشم سياجها "بأيقونات الإيموجي"، فلا تحصلنا على ماء الزهر ولا أشبعنا بطون النظر. فما أجمل التفاصيل ورونق القصص وأدمع الكحل المجعدة على صفحات لا تنام. وما أجمل العتاب وورق المرسال وصوت فيروز يثري فراش القلب وتسقط هزة هبوبة رطب الحياة جنيا، فإن كان ليّ بالغد نصيب هل ليّ بحب العود.

[1] الترجمة للمعني المتضمن للأبيات