د. محمد بن عوض المشيخي
أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
القراءة غذاء الروح ومفتاح للمعرفة. ويقاس تطور الشعوب والأمم برصيدها الثقافي والمعرفي على مستوى أفراد المجتمع، ومدى استخدامهم للمهارات والخبرات التي يكتسبونها من القراءة في حياتهم اليومية. فالثقافة الحقيقية جواز سفر للنجاح في الدنيا والآخرة، فهي أي الثقافة عنوان لكل الشهادات العلمية التي نحصل عليها بانتظامنا في الدراسة الأكاديمية من المرحلة الابتدائية إلى شهادة الدكتوراه. كما أن التجارب اليومية من أهم دروس الحياة التي تضاف إلى رصيد الإنسان وتُنير له دروب المستقبل، وتساعده على استخدام هذه الذخيرة المعرفية في اتخاذ القرارات السليمة.
ومن أسباب تراجع العرب عن غيرهم من الأمم انشغال الأسرة العربية لساعات طويلة بالبرامج التلفزيونية؛ الترفيهية والمسرحيات الكوميدية، التي تضيع الوقت، وتخدر العقل، وتبعد الإنسان عن الواقع؛ لأنها تفتقد للمضمون الثقافي الجيد الذي يسلي النفس ويقدم الحلول في نفس الوقت. ففي دول الخليج على وجه الخصوص هناك من أدمن مشاهدة المسلسلات الأمريكية، والتركية والكورية، ويحول الليل إلى نهار في السهر إلى ساعات الفجر، بعيدا عن ثقافة المطالعة التي يمكن أن تفتح لنا آفاقاً رحبة في الفكر والتأمل وفهم الحياة من حولنا. لقد شخص الشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي منذ قرون عديدة مكانة الكتاب في قوله "أعز مكان في الدنيا سرج سابح// وخير جليس في الزمان كتاب".
عالميا؛ معدل ساعات القراءة والمطالعة لعام 2019م، يشير إلى احتلال الهند المرتبة الأولى في مطالعة الكتب، متجاوزة بذلك العديد من الدول الأوروبية التي كانت تتصدر في هذا المجال الفكري، ثم أتت تايلاند في المرتبة الثانية، ثم الصين في المرتبة الثالثة؛ وكلها دول آسيوية تنتمي للعالم النامي، بينما كانت الدول الأوروبية كبريطانيا والدول الاسكندنافية في شمال القارة، تحتكر المراكز الأولى للقراءة لسنوات طويلة. فعندما كنت طالبا في بريطانيا؛ استغربت من الإنجليز المولعين بالثقافة، خاصة فتح الكتب للمطالعة أثناء انتظار إشارات المرور وهم يقودون سياراتهم، معلنين بذلك إدمانهم للقراءة، واكتسابهم هذه العادة الحميدة التي نفتقد إليها نحن العرب من المحيط إلى الخليج. كذلك أثناء زيارتي لبريطانيا في يوليو 2018 لاحظت محافظة الإنجليز على عادة القراءة - خلال رحلة القطار من جنوب إنجلترا إلى لندن. فمتوسط قراءة الفرد الأوربي يبلغ نحو 200 ساعة سنوياً، بينما معدل ما يقرأه الفرد في أرجاء العالم العربي لا يتعدى 6 دقائق في السنة. ويعود هذا الواقع المر؛ للأزمات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وكذلك أزمة التخلف الثقافي التي يعاني منها الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج، كانتشار الأمية التي تقدر بنحو مائة مليون فرد، وندرة المكتبات العامة، والترجمة إلى العربية، وقلة الدعم الحكومي للبحوث والتأليف. أما من ناحية عدد الكتب المنشورة في بلد ما؛ فإن الصين الشعبية احتلت المركز الأول بحوالي نصف مليون كتاب في السنة، ثم الولايات المتحدة الأمريكية بحوالي ثلاثمائة ألف كتاب، وقد احتلت المملكة المتحدة المرتبة الثالثة عالمياً بحوالي مائة وخمسن ألف كتاب. بينما أتت أمة اقرأ في ذيل الأمم؛ فالمواطن العربي نصيبه ربع صفحة واحدة من القراءة في السنة، بينما معدل قراءة الأمريكي تجاوزت 11 كتابا في السنة الواحدة، ثم يأتي المواطن البريطاني والألماني بقراءة 7 كتب سنويا. فحسب تقرير اليونسكو، فإن عدد الكتب الورقية الثقافية العامة ذات المستوى الرفيع التي تنشر سنويا في الوطن العربي لا يتجاوز بضعة آلاف عنوان. أما في إيران على سبيل المثال، فيصدر سنوياً نحو 65 ألف كتاب أغلبها بالفارسية والأذرية.
صحيح هناك من الناشرين العرب الذين يعتقدون أن أرقام اليونسكو غير دقيقة وأن الإنتاج العربي من الكتب أكثر بعشرات الآلاف، ولكنهم يعترفون بضعف حركة النشر والتأليف بشكل عام؛ وأن نسبة الكتب أقل بكثير من نسبة السكان الذين بلغ عددهم أكثر من ثلاثمائة وخمسين مليون نسمة، يقطنون اثنتين وعشرين دولة.
إن حاجة المجتمعات العربية إلى الترجمة من الإنجليزية والفرنسية والصينية إلى لغة الضاد أصبحت من الضروريات، كذلك دعم الإنتاج الفكري من البحوث والكتب وفتح المكتبات العامة من الأولويات التي يجب أن تنفذ من قبل الحكومات العربية بأسرع وقت ممكن؛ لمحاربة الجهل والاستبداد والتخلف الفكري.
من المفارقات العجيبة ما قاله وزير الحرب الإسرائيلي (موشي ديان) في أعقاب نكسة حزيران الشهيرة عند ما وجه له سؤال من الصحفيين عن الخطة العسكرية التي طبقت في احتلال أراضي 3 دول عربية في بضعة أيام قليلة، فقال هي الخطة التي استخدمها جيش الاحتلال في العدوان الثلاثي، والسبب في ذلك كما قال ديان "إن العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يطبقون".
أين نحن اليوم من الخليفة هارون الرشيد الذي أسس بيت الحكمة التي كانت مخزناً لأمهات الكتب، وموردا لطلاب العلم من مختلف أقطار العالم، ثم أتى ابنه الخليفة العباسي (المأمون) الذي كان يُعطي بوزن الكتاب ذهباً؛ لتشجيع حركة النشر والتأليف، وذلك عند ما كانت عاصمة الرشيد (بغداد) حاضرة العالم، وقبلة العلماء من أرجاء المعمورة.
كم كانت جميلة أيام الزمن الماضي، عندما كنَّا نقف ونثمن أهمية القراءة والمطالعة؛ ونقول فلانا من الناس مثقف أو جامعي، إذ تشتهر بعض الشعوب العربية بالمطالعة، بينما يعرف البعض بغزارة الإنتاج الفكري والكتابة والنشر، فتردد على أسماعنا ونحن صغار العبارة التالية "القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ".
عُمانياً، تشير إحصائية اليونسكو المنشورة أواخر التسعينيات من القرن العشرين إلى ضعف أرقام توزيع الصحف، وكذلك أعداد الكتب المنشورة سنوياً في السلطنة بالمقارنة بدول مجلس التعاون رغم ما عرف عن العمانيين من شغف بالعلم والثقافة عبر التاريخ.
من هنا أتت خطوة جديرة بالتقدير والاحترام من السلطان قابوس -طيب الله ثراه-متمثلة بإصدار مرسوم سلطاني بإنشاء (جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب) عام 2011. وتهدف هذه الجائزة الرفيعة إلى تشجيع الإنتاج الفكري، وحركة التأليف والنشر للمفكرين العمانيين والعرب، والتعريف بأعمالهم الإبداعية، كما تهدف الجائزة السنوية التي تشرف عليها لجنة مختصة؛ التعريف بالمجيدين واحتفاء بالأعمال الأدبية والبحثية الرصينة، والمتميزة في الساحة العلمية على مستوى السلطنة والوطن العربي.
هناك عدد كبير من المؤلفين العمانيين الذين يفضلون الذهاب إلى خارج السلطنة؛ لتجنب الرقابة الحكومية والإجراءات التي قد تأخذ شهورا قبل الاعتماد، وكذلك غياب الدعم الحكومي للناشرين والمؤلفين أثناء العقود الماضية. لذا تذهب المؤلفات العمانية وتنسب للدولة التي صدرت فيها هذه المؤلفات. كما أن مراقبة بعض الكتب العمانية التي تتناول الشأن السياسي، ثم مصادرتها من قبل الجهات المشرفة على معرض مسقط الدولي للكتاب خاصة في عامي 2017 و2018؛ قد أضر بسمعة السلطنة، وعمل على تثبيط الإنتاج الفكري، وقلل من الأعمال الفكرية والأدبية في البلاد.
وفي الختام، يجب تذكير المشرفين على قطاع الثقافة في السلطنة بأن نشر المكتبات العامة في ربوع السلطنة، قد أصبح من الضروريات الأساسية لثقافة الكتاب، وتشجيع القراءة الورقية والإلكترونية على حد سواء. فالمكتبة المجهزة بالكتب، ومصادر التعلم والأجهزة الحاسوبية، بمثابة جامعة مكتملة الأركان.