مدرين المكتومية
أذكر ذات يوم، وخلال دراستي في مرحلة البكالوريوس، وأثناء حضوري فصلا دراسيا مع أكاديمية باكستانية اسمها فاطمة، لم أكن أدري حينها ما الذي يدور في مخيلتها أو ما تسعى لتنفيذه في تلك المحاضرة، ولم أنجح في تخمين ما دفعها للقيام بما سأرويه في السطور التالية.. هل وصلتها شكاوى من بعض الطلاب أو أحاديث "نميمة" تتعلق بهم أو بغيرهم؟!
لكنَّ المؤكد لدي أنها كانت تود إخبارنا بمدى خطورة تناقل الأخبار المغلوطة، وأيضا تأثير القيل والقال على المجتمع، وهو ما نسمِّيه بـ"الوشاية"، فصنعت لنا تجربة لا تُنسى خلال المحاضرة، إذ مالت على الطالب الجالس في المقعد الأول من الصف الأول، وأخبرته بـ"سرٍّ ما"، ثم طلبت منه أن ينقله بطريقته إلى زميله الذي بجواره بصوت خافت، وهكذا طلبت من كل طالب مشارك في تلك المحاضرة، حتى انتهى الأمر بآخر طالب جالس في الصف الأخير، عندئذ طلبت من الطالب في ذاك الركن البعيد، أن يُخبرها بما وصله من معلومات أو أخبار تناقلها زملاؤه حتى وصلت إليهم. كانت المفاجأة الصادمة أنَّ المعلومة الأخيرة تختلف بدرجة كبيرة للغاية عن "السر" الذي أخبرته الأستاذة لأول طالب، ثم أسهبتْ في شرح خطورة تناقل الأخبار وتأثير ذلك على المجتمع؛ فقالت إنَّ الأمر لم يستغرق أكثر من 10 دقائق حتى تغيَّرت تفاصيل "السر" الذي أخبرت به زميلكم، ورغم أننا في قاعة مغلقة وعددنا محدود، إلا أن المعلومة تم تناقلها بصورة مختلفة غيرت منها الكثير، فما بالكم بنشر وترويج المعلومات والوشايات والقيل والقال في المجتمع على اتساعه وتنوع أفكار أفراده؟!
الوشاية إذن تصرُّف بغيض يجب أنْ يرفضه أي مجتمع، وألا يتعاطى معه الأفراد، وإذا ما وصل إلى أحدنا معلومة ما أو سر، فعليه ألا ينقله لغيره، خاصة إذا لم يكن متأكدا من صحة كلام المتحدث الذي أخبره بها. ومجتمعنا العماني -والكثير من المجتمعات العربية وغير العربية- ترفض الوشايات لكن للأسف لا تستطيع وقف سيل الوشايات والشائعات والأقوال المتناقلة على ألسنة البشر. ومن هنا، جاءتْ الحكمة من أستاذتي في الجامعة عندما تحدثت بصوت مرتفع وحازم قائلة: "من الآن فصاعدا، لن أقبل الاستماع إلى أي حديث من أي طالب يتعلق بأمر خارج نطاق قاعة المحاضرات والمحتوى الأكاديمي".
اخترتُ تسليط الضوء على هذه القصة المعبرة، لأُظهِر كيف أن الوشاية تؤثر بشدة على الأفراد والمجتمعات بشكل عام، فلربما يخسر أب ابنه بسبب كلمة غير صحيحة قالها ابن عمه عنه، وقد يخسر الموظف وظيفته بسبب قصة مزعومة رواها زميل عمل، استطاع أن يحبك خيوطها بإتقان ويخرجها بكل تفاصيلها لرئيسه في العمل، بسبب الغيرة مثلا!!
في أزمة سابقة، كانت القبائل تتناحر فيما بينها بسبب عقلية المكيدة بين القبائل، وكانت الوسيلة الوحيدة آنذاك للإيقاع بين الأطراف المتنازعة "الوشاية"، وللأسف الشديد الأمر لم يختلف معنا أيضا كمجتمع معاصر يُفترض أنه متطوِّر متقدِّم ويعيش عصر الذكاء الاصطناعي والروبوتات، إلا أنه ما زال هناك أشخاص يستمتعون بسرد القصص الكاذبة، ومن شدة هذه العادة السيئة يصبح لديهم الأمر وكأنه حقيقة، إذ يصدُق عليهم المثل القائل "يكذب الكذبة ويصدقها"، والمصيبة الأعظم أنَّ هناك أناسًا يستمتعون بتصديق كل هذا الهراء، ويبحثون عن من ينقل لهم الأكاذيب والقصص المفبركة عن غيرهم.. يعيشون طوال حياتهم وهم يبحثون ويلهَثُون خلف التفتيش في حياة غيرهم. وفي المقابل، لا يربَحُون سوى الإثم، وإضاعة الحياة في التفكير بغيرهم.
أقول لكل من يعشق الوشايات، ويُحب أنْ تأتيه على طبق من فضة من البعض، خاصة المحيطين به، علينا أن نترفَّع عن الصغائر، وأن نتجاوز الآخرين، وأن نعيش لأنفسنا، فما الذي سنجنيه من طعن الآخرين في ظهورهم غدرًا إلا إدراك مدى تقزمنا وضعف أنفسنا، لأن من يمارس هذه التصرفات لا يملك أيَّ قوة داخلية تساعده على تجاوز الآخر، فدائما يكون الآخر بالنسبة له العدو وحجر العثرة أمامه؛ وذلك أمر غير منطقي وغير صحيح؛ لأن الحياة التي يعيشها الآخر تختلف عن الحياة التي نعيشها نحن، والأقدار تختلف، والأرزاق يُقسِّمها الله لمن يشاء، والأمر كله في نهاية المطاف بيد الله.. وليس آيادي البشر!
فلنهتم بشؤون أنفسنا.. بتحقيق نجاحاتنا وتجاوز عثراتنا، دون أنْ نتسلق على ظهور الآخرين، ودون أن نكون سببًا من أسباب تدمير أحدهم؛ لأننا لا نُدرك كم دفع الآخر من أثمان ليصل إلى ما هو عليه، ثم يأتي أحدهم -ببساطة- ويُدمِّر حياته لا لشيء سوى بدافع الغيرة والحسد.
أحثُّ الجميع على التوقف عن مُمارسة التصرفات القبيحة أخلاقيًّا، فنشر الوشايات والحرص على الاقتراب من رئيس أو مدير أو حتى زميل عمل من خلال تشويه صورة الآخرين، لن يُحقِّق النجاح، بل سيكون السبب الأول في الإخفاق والفشل، في هذا العالم والعالم الآخر.. اتركوا الخلق للخالق، اكبحُوا جماح النفس الأمارة بالسوء، ألجموها بحب الناس وفعل الخيرات، وانتبهوا لأنفسكم وحياتكم؛ فالدقيقة التي تمضي لا تعود، وإذا تحدَّثتم عن غيركم فليَكُن بذكر المحاسن والصفات النبيلة التي تنشر التآلف والود بين الناس.