تجربتي مع "كوفيد 19"

عبدالله بن هاشل المسكري

10 أيام مضت بكل قناعة ورضا، دون ضجر أو ملل أو تذمُّر أو تراخ في وتيرة الحياة، بل تجديد مُثرٍ في نمطها، وتنظيف للقلب مما علق به من درائن الحياة ومنغصاتها، واستفادة من فراغ خلال ثمانية أيام بلياليها من وقت الحجرالصحي، في قراءة وتصنيف ما تراكم لديَّ من وثائق تاريخية أتت عبر المجموعات الثقافية الواتسابية، وتصفح وتصنيف المراسلات الرسمية العديدة، ورمي ما لا حاجة لنا به، خاصة المكرر منها، وتنضيف رفيق هذا العصر جهاز الهاتف من مئات المقاطع والصور، ومسح ما تراكم من تواصلات وما حملته المجموعات ورسائل الأصدقاء من غث وسمين.

قبل تلك الأيام العشرة، كل شيء كان يسيرعلى ما يُرام، حياة جميلة يسودها النشاط والحيوية والتفاؤل لمستقبل أفضل للوطن والأسرة؛ حيث التفوق بين كافة أفرادها في بيئة العمل لمن يعمل منهم والدراسة لمن لا يزال على مقاعدها الجامعية، أو دونها، حتى الأول الابتدائي، ونحن نشرف ونوجه ونهذِّب حسب حاجة كل منهم إلى ذلك.. استمرار تعاملنا المعهود مع قضايا المجتمع لم يتوقف منذ أن بدأ عام 1983م.

*************

استيقظتُ صباح يوم الأحد الموافق 14 من فبراير الجاري على شعور لم أعهده من قبل، بوهن عام وارتفاع خفيف في درجة الحرارة وفقدان للشهية، واعتبرت أنَّ الأمر طبيعي لشخص في عمر 67 عاما، والتغيرات مُتوقعة، وحيث إنني تعودت على الصبر والتأقلم السريع مع ما يعتري الحياة من عوارض صحية أو نفسية، وامتصاصها بطاقة إيجابية متجددة، فقد تركت لنفسي مجالا من الوقت قبل الحكم على هذا الشعور الغريب.

في ضُحى اليوم التالي، تلقيتُ اتصالا من إحدى الجهات الحكومية المهمة للاتقاء بفريقها الفني صباح الخميس من ذات الأسبوع، فطلبت من المتصل الكريم إمهالي بعض الوقت قبل الرد بالموافقة على الحضور، رغم أنَّ الموضوع المتصل بشأنه مهم لي شخصيًّا.

صباح الثلاثاء، طلبت من الولد النجيب أحمد أخذي لعيادة شركة تنمية نفط عُمان، بعد أخذ موعد عن بُعد مساء الإثنين لإجراء فحص عام؛ حيث إنني لم أزُر هذه العيادة على مدى خمسة أعوام خلت، وانتقلت إلى مقر جديد لم أرَه بعيني، وصلنا عيادة الشركة وهي بثوبها الجديد حوالي الساعة 11 صباحا، ودخلنا على الدكتور عبدالله الكلباني الذي شدَّنا مُسماه الوظيفي على باب مكتبه -منسق كوفيد 19- والذي لم يسبق لي معرفته من قبل، وأكرم به من رجل فاضل، سألني أولا عن سبب الحضور وأخبرته عمَّا كنت أشعر به أمس وتلاشى اليوم، وقال الحمد لله إنك أفضل، ثم طلبت منه إجراء فحص كورونا، فرد عليَّ أنه إن كانت لا تبدو عليَّ الأعراض فلماذا الفحص، إلا أنني أخبرته بالمقابل أنه بعد غد لديَّ موعد مع فريق بجهة حكومية، فأفضِّل التاكد من الحالة قبل أن أورِّط الآخرين فيما هم في غنى عنه، فوافق مشكورا ومأجورا. ذهبنا بكل ثقة إلى غرفة أخذ العينة للفحص، فتمت بكل سلاسة، والابتسامات سيدة الموقف بيننا. قال لي اذهب إلى بيتك وسنتصل بك عن النتيجة صباح غد الأربعاء.

*************

عُدت، فتواصلت مع الجهة الجهة الحكومية، طالبا تأجيل الموعد إلى وقت آخر سنتفق عليه لاحقا، وأخبرتهم بالأسباب، فوافقوا جزاهم الله خيرا.

انتظرتُ اتصال الطبيب صباح الأربعاء، ولكوننا نُدرك مدى مشاغل الأطباء في وقت الذروة، فلربما لديهم أولويات أخرى، وبعد حين بادرت أنا بالاتصال به. اتصلت وأنا على ثقة بأنَّ أي نتيجة أسمعها منه سيكون فيها الخير كله، وأنا أكرِّر قوله تعالى: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، و"عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" صدق الله العظيم.

ردَّ الطبيب بعد عدة محاولات من الاتصال قائلا إنَّ نتيجة الفحص إيجابية؛ أي أن الإصابة موجودة، وأخذ مني بعض البيانات الشخصية لتوجيهها إلى مركز الترصد الوبائي، أي إضافة الرقم؛ حيث تتطلب الإجراءات الحكومية ذلك، وللحصول على ما سيسدونه لنا من نصائح طبية ووقائية واحترازبة، كما قدم لنا هو شخصيا بعض التعليمات السريعة المتبعة للتعامل مع هذه الحالة في البيت والأسرة، ومنها الحجر المنزلي لعشرة أيام، وكيفية التصرُّف عند حدوث أعراض جديدة، ومن ذلك التوجُّه إلى أقرب مركز صحي للحصول على العقاقير المناسبة.

عُدنا إلى البيت الذي انطلقنا منه بنفس السرعة، لنبدأ إجراءات الحجر المنزلي، والتي ستشمل كافة أفراد الأسرة.. بالتشاور مع الأسرة اخترنا المكان الأنسب الذي به نافذة تطل على مواقف السيارة والشجيرات التي تعوَّدت الاعتناء بها شخصيا، وتُشرف على شارع نشط، وأرى من خلالها الخارج والداخل إلى البيت. أحضرتُ بيدي كل ما أحتاج إليه من مكتبي بالطابق الأرضي والجهاز المحمول ووضعتهم على هذه الطاولة الزجاجية الأنيقة الموجودة أصلا في هذا المكان، وبدأت أخطط في كيفية الاستفادة من هذا الوقت الثمين الذي دعوت الله أن يجعله طالعَ سعد، وأن يبعد عني وعن أسرتي خلاله أية مضاعفات سلبية خلال وقت الحجر الصحي المنزلي هذا.

تراكمتْ حولي مُكونات مُستحضرات الأسرة العلاجية الطبيعية للتعامل مع هذا الحدث؛ منها: نقيع القرنفل الدافئ -نقيع شاي الأعشاب والنعناع الذي أحضره شخصيًّا من مزرعتي بإبراء كل أسبوع- أصناف المكسرات، والتمر المهروس بالسمن العماني، والسلطة الخضراء من إنتاجنا المحلي بإبراء، والفواكه النادرة، وقد تحول المكان إلى صيدلية شعبية ومركز لمنوعات أعشاب وأغذية صحية قلما نفكر في اقتنائها خلال الحياة العادية.

مع كثافة تناولي لما بين يدي مما ذكر أعلاه، بدأت الأعراض التي دعتني للذهاب إلى العيادة تتلاشى تدريجيا والحمد لله، إلا أن الحجر يجب أن يستمر حسب التعليمات التي نُقدِّرها؛ فقد يكون تلاشي الأعراض مؤقتًا أو ان معركة بدأت تدور في الأحشاء بين الفيروس والمضادات الطبيعية لم تُحسم نتيجتها بعد، وقد افترضتُ وأنا المتفائل دائما أنَّ النتيجة ستكون محسومة بإذن الله لصالح المضادات، وقد حسمت كذلك لاحقا والحمد لله.

تواصلتُ مع الأخوة والأقارب من الدرجة الأولى، لا لأخبرهم فقط، بل لأطمأنهم في ذات الوقت بأني أصبت بكوفيد 19 دون أعراض واضحة، وأني أواصل أنشطة الحياة المختلفة وكأنَّ شيئا لم يكن،  وبكل ثقة وأمل في قدرة الله على صرفه عني ومساعدتي في التغلب عليه.

استمرَّ الأولاد الكبار من البيت الآخر الذي استبشر قبل بضعة أيام فقط بقدوم الحفيدة الثامنة -دانة- بالتواصل، مع إصرارنا جميعا على عدم الالتقاء المباشر، وقد أحاطونا بالرعاية والاهتمام حتى نادينا واغرقاه وقد أمدُّونا بالمستلزمات افتراضا منهم أنَّ الموجودين في بيت إخوانهم الصغار وهم بالحجر لا يمكنهم الخروج  للتسوق.

تواصُلنا اليومي مع الأصدقاء ومع المجموعات الهادفة، خاصة تلك التي أنشاناها لتحل محل لقاءاتنا المجتمعية التي انقطعت بسبب الالتزام بعدم التجمع، وتطبيق مبدأ التباعد الجسدي والاجتماعي، لم ينقطع حتى لا يضطروا للسؤال عن سبب الانقطاع.

*************

استمرَّ تلاشي الأعراض لليوم الثاني والثالث، وعاد الشعور بالشهية للطعام والشراب حُلوه ومره، بل وارتفعت المعنويات والطاقة الإيجابية إلى أعلى مستوياتها، بتوفيق من الله، وبدعم من أفراد الأسرة في البيت وخارجه، وشجَّعني ذلك على الاستمرار من الاستفادة من الوقت.

في اليوم الثاني، تلقيتُ اتصالَ متابعة من مجمع صحي الخوض، وقد أخبرتهم بأنني لا أشعر بأية أعراض، وهذا ينطبق كذلك على كافة أفراد الأسرة؛ فأخبروني بأهمية الاستمرار في الحجر حتى يوم الثلاثاء الموافق 23 من فبراير، وقد التزمنا. نحن اليوم (أمس) في اليوم الأخير من فترة الحجر، وسنتوجه إلى المجمع الصحي غدا بإذن الله للحصول على آخر شهادة لنا في الحياة لحد الآن "شهادة انتهاء فترة الحجر الصحي"، والحمد لله.

ما فقدته فعلًا خلال أيام الحجر الصحي هو تلك الانطلاقات البريئة من قبل الصغير الفاروق -6 سنوات- وأخيه الأكبر منه قليلا الوارث للعناق في كل مرة أعود فيها إلى البيت من مشاوير الأنشطة الخارجية اليومية. لقد كُنت أنزل في هجيع الليل والناس نيام، وأنا بالكمامات والقفازات لرش الماء على ما يوجد بمواقف السيارات من شجيرات ونباتات تعوَّدت على الاهتمام بها شخصيا بصفة يومية.

*************

من المواضيع التي تمكَّنتُ من العودة إليها ووضع اللمسات الأخيرة عليها خلال فترة الحجر الصحي، وإنجازها بعد الانشغال عنها لفترة طويلة ومتابعها، هي مواضيع مدونات شخصية عديدة ما يلي:

((قطوف دانية، محطات من حياة مخضرم عماني، إجابة السائل عن حياة الأوائل، المكنونات البديعة)).

نختم المقال بدعاء المولى العلي القدير أن يمُن على الجميع بالصحة والعافية والسرور، وأن يمن بالشفاء على كافة المرضى والمصابين، وأن يجنب الجميع كل سوء ومكروه.

كما أتقدَّم بالشكر الجزيل لكافة أفراد الأسرة على وقوفهم وتضامنهم ودعواتهم الطيبة المستجابة بإذن الله، وللكادر الطبي بعيادة شركة تنمية نفط عمان ومجمع الخوض الصحي، على ما قدموه من رعاية ونصح أسهما في كيفية التعامل السليم مع الحالة، وكيفية التغلب عليها وحسن التعامل معها.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تعليق عبر الفيس بوك