المعلّقة الثانية: العمل عبادة

أنيسة الهوتية

أعتذر لقرائي الذين شعروا بأنَّني استفززتهم في مُعلِّقتي الأولى، وأقول بأن كتاباتي لا تقصد أشخاصاً بل تستهدف مواضيعَ مجتمعية متداولة في كل زمانٍ ومكان، ولعلَّ القارئ يجد فيها أمرًا فيصححه! وإن صححه فلمصلحة نفسه! وهناك مثل عامي قديم يقول "إلي على راسه فلعَة يتحسَّسها"، وللأسف الشديد مع كل مقال ينشر لي أرى متحسِّسا! رغم أنَّني لم أرَ "فلعته"!!

وقال لي أحد القراء: مقالك الأخير كأنه يشجع على إهمال العمل، والرسول الكريم قال: "العمل عبادة"، كما يقال في المأثورات: "اسعَ يا عبدي وأنا أسعى معك". فرددت عليه: بأنَّ الحديث الأول ليس له أصل في الأحاديث النبوية ولا في الآثار، ولو أتينا بشيءٍ يقاربه المعنى فهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" رواه مسلم والبخاري، والحديث واضحٌ وضوح الشمس دون شرح. أما الحديث الثاني فهو أيضاً ليس حديثاً (بل إن القارئ يعتقد أنه حديث قدسي!!)، ولكن له وجهٌ في المعنى، وهو أن الله عز وجل يعين عبده في سعيه ويمهد له ويسخر له خلقه. وكذلك يملي للظالم في سعيه للباطل، ويمهله إلى يومٍ معلوم.

وإن استحببنا قول "العمل عبادة" فالعمل هنا لا يقصد به الدوام الذي نحصل منه على معاش، بل هو كل عمل وفعل خير يطرأ من الإنسان فيؤجر عليه، وكذا شأنه يكون كشأن العبادة في الحصول على الأجر، لكنه لا يغني عن العبادة المفروضة، فللعبادة أجرٌ أعظم ومغزى أكبر توضحه سورة الذاريات في الآية 56: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" صدق الله العظيم.

والعبادة الصادقة لله دون رياء تفتح للعبد أبواب الرزق، فخزائن الله تعالى لا تنفد ويرزُق من يشاء بغير حساب. وقد أمر الله تعالى الإنسان بالعمل ليسد حاجته وحاجة رعيته، فإذن هو مأمور بالعمل للعيش، وعليه أن يقنع برزقه ويسعى دون تكليف نفسه فوق طاقتها طمعاً في المزيد، فإن لنفسه عليه حقًّا من نوم وراحة وطعام، ولأهله عليه حقًّا بتواجده بينهم ومتابعتهم، ولأبنائه عليه حقًّا في تربيتهم. ولا يبذر ويسرف في ماله غرورا وتكبراً وإرضاءً للمجتمع، ولا يبخل كذلك على نفسه وأهله ويصرف مما أتاه الله بما يرضيه سبحانه ويتصدق ويزكي. وقال تعالى في سورة الضحى الآية 11: "وأما بنعمة ربك فحدث"، والتحدث بنعم الله تعالى يكون بالشكر والحمد، وتمام الإيمان بأن كل ما يمتلكه عطاءٌ من الله تعالى للإنفاق في مرضاته. فلا يبذره ولا يكدسه حتى يكون بلا نفع له أو لغيره!

ومن حيث بدأنا، تعبيراً عن نفسي كامرأةٍ مجتهدة في عملي، أمينة في أداء مسؤولياتي بتدقيق من ضميري المرافق لي في دوامي وبيتي، يستحيل أن أشجع على إهمال العمل، وأتفهم أن الإنسان المحكوم عليه بساعات العمل الطويلة لا حول له ولا قوة في أداء محكوميته. أما المتسيِّب، وغير الأمين في العمل والمال العام، فإنه إنسانٌ ظالمٌ لنفسه: "ومن يتَّقِ الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب".

والباحث عن العمل عليه عدم الانتظار، والاسترزاق بأعمال كثيرة مباحة ولا يخجل منها مهما كانت. وعلى الجهات الحكومية المسؤولة التساهُل مع المواطنين لفتح مشاريعهم الصغيرة والمتوسطة، دون اشتراطات تعجيزية.. حتى للموظفين الذين لديهم أفكار وطاقات، فإنْ أثمرت مشاريعهم سيتركون وظائفهم للباحثين غير القادرين على إدارة المشاريع الخاصة.