إنسانية الإنسان والرؤية المغايرة!

عبدالله العليان

لا شكَّ أنَّ الحديثَ حول إنسانية الإنسان في الحقول الفكرية العامة في عصرنا الراهن، نظرة تستحق الاهتمام والتقدير، ولنا في نظرة الإسلام للإنسان كما جاء في القرآن الكريم، باعتباره خليفة الله سبحانه وتعالى في هذا الأرض وإنساناً مكرماً، كما قال تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا".

من هنا، فإنَّ الإنسان مكرَّمٌ بصفات عظيمة، ومكانة رفيعة بين المخلوقات في هذا الكون، ولعلَّ التأسيس القرآني على مسألة تكريم الإنسان، وردت في آيات عديدة، كما أن القيم الأخرى التي استنبطت من الكتاب المبين، أبرزت الكثير من الصفات المميزة في هذا الدين للإنسان، منها: حق الحياة، وحق الحرية، وحق المعتقد، وحق التعبير...وغيرها من الحقوق الإنسانية، وهذه بلا شك تعطي الدلائل الواضحة على مدى ما تتمتع به الحقوق للإنسان في الإسلام، بغض النظر عن معتقده وعرقه ولونه.

ولفت نظري في الندوة التي عُقِدت من قناة أنس "اليوتيوبية"، والتي حملت عنوان "في معنى أنسنة: حول أواصر إنسانية تعلي من قدر الإنسان"، وأدارت الندوة الباحثة والكاتبة فاطمة الوهيبية إدارة رائعة. والحقيقة أنني استغربت من خلال الرؤية التي طرحت من المشاركين، حول فكرة الحاجة لنزعة إنسانية تُعلي من قدر الإنسان، أنه تم تجاهل رؤى أخرى تختلف مع النزعة المركزية حول الإنسان وفق الرؤية الفلسفية الغربية، والتي هي نتاج للصراع مع الكنيسة الغربية، وانتهى الصراع إلى إقصائها وتحجيم دورها، بسبب تدخلها في غير مجالاتها الدينية، وإبعادها عن المجال المدني والسياسي في القرن الثامن عشر الميلادي، لكن وفي المقابل لم يتم طرح النظرة الإسلامية من خلال نصوص القرآن الكريم والكثير من النصوص والقيم الإسلامية في هذا الشأن، حول الإنسان ومكانته العظيمة في هذا الدين، وكذلك ما جاءت به الأحاديث النبوية، في مقابل النظرة الغربية المتعلقة بالأنسنة ونظرتها الأخرى المغايرة، وكان بودي أن يتم الإشارة إلى الكتابات الفكرية العربية حول النزعة الإنسانية في القيم الإسلامية عموماً.

والحقيقة أن الدكتور عبدالجبّار الرفاعي، كان واضحاً وكاشفاً بكل وضوح عن بروز نزعة الأنسنة المتطرفة والمغالية في الرؤية الغربية، تجاه طرح فكرة الأنسنة، وذكر أيضا أساسَ تكريم الإنسان في القرآن، والنظرة الإسلامية في هذا الأمر، فما جرى بعد "عصر التنوير" -كما يُسمَّى- أنه تم إبراز النزعة الإنسانية وفق النظرة الغربية، والتي ترى نزع القداسة عن الدين، وهذا نتاج -كما أشرت- هذه الفكرة المتشددة تجاه الدين، وجعل الإنسان هو المحور في كل شيء، فباتت إشكالية كما جرت في الغرب مع الكنيسة، وبقيت عالقة في فكر الغربيين وصراعهم مع القساوسة.

لكن هذا الإشكال ليس له حاضن فكري في الإسلام؛ حيث أولًا توجد أزمة بين الدين والنظرة الإنسانية للإنسان، وما جاء مُسوِّغ -وليس مُهمًّا بالدرجة- لنقل هذه الأزمة من الغرب إلى عموم الثقافات الأخرى، لأن الصراع بين الدين والمدنية، أو بين الدين والعلم، قضية يريد البعض أن يسوقها لنا، ويجعلنا نسخة مكررة من الغرب، ومن إشكالاته الفكرية، وهي من آثار أزمة الانبهار بالآخر، ويراد لنا تقليده وإسقاط ما عاشه من أزمات خاصة في محيطه الفكري والثقافي وكأنها جزء من ثقافتنا، ومن الباحثين البارزين من العرب والمسلمين الذين درسوا في الغرب في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وعاشوا التجربة الفكرية الحديثة بكل تجلياتها وحركاتها المتمردة على التراث الديني، لكنهم كانوا أكثر وعياً وفهما وتجردًا من التأثر الأعمى بهذه التجربة بإيجابياتها وسلبياتها: المفكر الإصلاحي المعروف الدكتور علي شريعتي، والذي طرح في كتابه "الإنسان والإسلام"، قضية البناء الفكري للمدنية الحديثة في الغرب؛ أي نظرية "تقديس الإنسان"، لكنَّ شريعتي أشار إلى تكريم الإنسان في الإسلام، فقال: "يقول الله عز وجل لملائكته: إني جاعل في الأرض خليفة، لاحظوا بدقة مكانة الإنسان في الإسلام كم هي عظيمة، حتى نظرية أصالة الإنسان أو (مانيسم Mansim) لأوروبا، أو "مانيسم" ما بعد النهضة، لم تتمكن أن تفترض الإنسان بهذه القدسية والعظمة وبهذا السمو.. أي أنَّ رسالة الإنسان في الإسلام تتضح بالخطاب الأول لله سبحانه وتعالى، وأن الرسالة التي حددها الله سبحانه للكائنات يضطلع الإنسان بمسؤولية أدائها باعتباره خليفة الله في الأرض".

كما أن الباحث والمؤرخ التونسي الدكتور هشام جعيط، تحدث في أحد فصول كتابه "أزمة الثقافة الإسلامية"، عمَّا أسماه بـ"النزعة الإنسانية والعقلانية في الإسلام"، حيث يرى جعيط أن "النزعة الإنسانية الخاصة بالقرآن، هي شيء آخر. ويمكن التساؤل كيف استطاع نص منّزل مركز على الله إلى هذا الحد أن يؤسس نزعة إنسانية... (فـ) الإنسان يحتل فيه مكانة مركزية"، وأشار جعيط إلى آية "اقرأ" بما لها من دلالة في هذه النزعة.

أما د. فهمي جدعان -وهو من الباحثين الليبراليين، الذين درسوا في جامعة السوربون في فرنسا- فيرى في كتابه "مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة"، فصل "الدين بعيون إنسانية" أنَّ القيم الإنسانية الكثيرة في الإسلام، مثل الكرامة الإنسانية، والرحمة، والعدل...وغيرها لها دلالاتها الإنسانية العميقة، وأن: "أبرز ما تتصف به هو التشديد على أساس "القيم" في الدين. وقد كنت دوماً -وسأظل- أؤكد أن المزية الجوهرية لدين الإسلام هي غائيته القيمية، أي الأخلاقية، أي الإنسانية".

والأغرب أن البعض يذكر أفعال الجماعات المتطرفة، وكأنها بهذا الفعل أنهت إنسانية الإسلام، مع أن هذه الأفعال مرفوعة من غالبية الأمة بكل مكوناتها الفكرية والسياسية. وفي المقابل النزعة الإنسانية لعصر التنوير؛ فماذا جرى بعدها من حروب كونية أولى وثانية حصدت عشرات الملايين؟ وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من جرائم حتى الآن؟ وما جرى في البوسنة والهرسك، وحصار العراق وغزوه! فما هو تأثير فلسفة الأنسنة في الغرب على هذه الوقائع والجرائم الرهيبة؟! إنها المعايير والمقاييس المزدوجة.. ولله في خلقه شؤون.