أمريكا بين حقبتين (1)

 

محمد بن سالم البطاشي

بعد محاولات يائسة للتشبث بالسلطة غادر دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق البيت الأبيض بعد هزيمته في الانتخابات، ليسدل الستار على أغرب فترة مرَّت بها أمريكا، اختلطت فيها الحقيقة بالأساطير، ولم يعُد المتابع يفرق بين جد السياسة الأمريكية وهزلها.. قرارات بالجملة والمفرق، تمزج بين التراجيديا والكوميديا، سياسة مثلت ابتعاداً عن التوجهات الليبرالية التي اعتمدتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ أن غدت الولايات المتحدة قوة عظمى، وتميزت بتقلبات عنيفة وغير مُتوافقة في السياستين الداخلية والخارجية، أفرزت انقساماً عميقاً، وتداعيات خطيرة على الصعيدين الداخلي والدولي، نظرا للثقل الكبير الذي تشكله الولايات المتحدة، وفي هذه العجالة سنستعرض بعضاً من تلك السياسات الداخلية والخارجية.

أولا: السياسة الداخلية

  1. الملف الاقتصادي

تراجع معدل البطالة إلى مستوى3.7% كأقل مستو له منذ سبعينات القرن الماضي، كما بلغ الناتج المحلي أكثر من 20 تريليون دولار، بما يمثل 25% من الاقتصاد العالمي، ورغم نجاح خطط الإنعاش الاقتصادي إلا أنَّ الإخفاق في ملفات داخلية كثيرة قد وقف في طريق الرئيس مما أدى إلى هزيمته.

  1. الملف الصحي (كوفيد -19)

رغم تحذيرات وكالات الاستخبارات الأمريكية من خطر هذا الوباء القادم من الصين واحتمال انتقاله إلى أمريكا، إلا أنَّ الرئيس قلل من خطره بل وصفه بأنه خدعة أخرى من الديمقراطيين في مُحاولة لعزله!!!. وقد ارتكزت استراتيجيته في مواجهة تفشي الوباء على محاولة إبقائه خارج حدود الولايات المتحدة، ولكن سياساته تجاه الوباء ظلت متخبطة وضعيفة، وليست محكمة بما فيه الكفاية على عكس دول أخرى، ومع تفشي الوباء واستفحال الأمر، حدث تحول في طريقة تعاطي الإدارة مع هذه الجائحة، حيث اعترف الرئيس بخطورة الأمر، وأعلن حالة الطوارئ، وفعل قانون الإنتاج الدفاعي، وطالب الصناعات الكبرى بتحويل إنتاجها نحو صناعة المعدات والأجهزة الطبية اللازمة لمواجهة الموقف مع انتشار الوباء واستفحال الأمر بشكل خطير، إلا أنَّ هذه جاءت متأخرة كثيراً، وأخفقت في وقف الزحف الهائل لهذه الجائحة وبالتالي فشل التعامل مع الأزمة على المستوى الوطني. ولم تبد الحكومة الأمريكية اهتماماً بالدعوات العالمية لتوحيد الجهود للتصدي لهذه الجائحة على مستوى العالم، وظلت حبيسة سياستها الانكفائية رافعة شعار (أمريكا أولا)، مما أدى إلى أن تصبح أمريكا المتضرر الأول عالمياً على مستوى الوفيات والإصابات.

  1. الخطاب العنصري

تبنى الرئيس ترامب في حملته الانتخابية خطابا شعبويا صارخا، معاديا للتوجهات الأمريكية الليبرالية، وللطبقة السياسية التقليدية، وللمسلمين، وسن قوانين مُعادية للمهاجرين والملونين بصفة عامة، وجعل مخاوف البيض حاضراً ومستقبلاً أحد أهم أولوياته. واستمرت تغريداته المليئة بالمُفردات العنصرية تغذي تلك المخاوف بعد فوزه بالانتخابات، ولم يسلم من إساءاته حتى أعضاء الكونجرس، إذ انتقد انتخاب عضوات مسلمات من أصول أفريقية، وأقام جدار الفصل مع المكسيك، وتسبب كل هذا في تعاظم الانقسام والتوتر العرقي داخل أمريكا، وأدى إلى موجة واسعة من التظاهرات العرقية في مناطق أمريكية واسعة، تخللتها تصرفات عنصرية من قوات الأمن، قوبلت باتساع نطاق العنف، وقد عكس تقارب نتائج الانتخابات الرئاسية  مدى عمق الانقسام الاجتماعي والفكري داخل أمريكا، ثم كانت الدراما الصاخبة يوم 6 يناير حين اقتحم مناصرو ترامب قدس الحريات والقيم الأمريكية المُمثل في مبنى الكونجرس مهددين شرعية النظام الأمريكي في الصميم، مما أثار موجة واسعة من الانتقادات من جانب الصحفيين والمتابعين السياسيين، وقادة الفكر والمثقفين وعلماء الاجتماع، محملين الرئيس ترامب مسؤولية هذا الانحدار في مستوى السلم الاجتماعي، ثم اختتم فترته بعدم حضور مراسم تنصيب الرئيس بايدن في واقعة لم تشهدها أمريكا منذ قرن ونصف القرن.

ثانيا: السياسة الخارجية

عمل الرئيس ترامب على سياسة خارجية انكفائية وتبنى مقولة (أمريكا أولاً)، مما أدى إلى تراجع الدور الريادي للولايات المتحدة، والإخلال بأعراف السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وتضررت جراء تلك السياسة ملفات عديدة نستعرض بعضاً منها:

  1. الملف الكوري:

راودت الرئيس ترامب أوهام باحتواء كوريا الشمالية، وأعتقد أنه قادر على نزع سلاحها النووي، ومن أجل هذا اجتمع بالرئيس كيم جون أون مرتين في كل من سنغافورة وفيتنام عامي 2018/ 2019 على التوالي، ولم يسفر ذلك إلا عن تعهد هزيل بتوقف كوريا الشمالية عن المزيد من التجارب النووية، وفي المقابل فقد أعطت كوريا هذه الاجتماعات شرعية دولية كانت بأمس الحاجة إليها، ثم عادت كوريا إلى ما كانت عليه، بل إنها غافلت إدارة ترامب واستغلت اهتمامها بالانتخابات لتعود إلى سياسة إطلاق الصواريخ البالستية وتعزيز ترسانتها النووية.

  1. القضية الفلسطينية

ازدادت القضية الفلسطينية مظلومية جراء مواقف الرئيس ترامب، الذي تبنى سياسات نتنياهو بكاملها، بل وزايد على المواقف الإسرائيلية المغالية في تطرفها، حيث رفع كل تحفظ وممانعة أبدته الإدارات الأمريكية المتعاقبة على سلوك إسرائيل العنصري والإجرامي المنافي لأبسط قواعد القانون الدولي، وشجع السياسات الإسرائيلية الرامية إلى تهويد كامل أرض فلسطين، وباقي الأراضي العربية المحتلة، فمن مباركة لضم البؤر الاستيطانية المنتشرة في كل مكان، إلى الاعتراف بضم هضبة الجولان السورية، مرورًا بإغلاق مكاتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في أمريكا، وفي عهده لم تترك إسرائيل جرماً إلا اقترفته، ولا منكراً إلا مارسته بحق الفلسطينيين، وبذلك أصبح حل الدولتين مجرد ضرب من الخيال.

وكانت ثالثة الأثاقي اعتراف إدارة ترامب رسميا في عام 2017م. بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها، وهو أمر ظلت الإدارات الأمريكية تقاومه منذ أن أصدر الكونجرس قانون سفارة القدس عام 1995م. لتعارضه مع مجمل قرارات الشرعية والقانون الدوليين منذ عام 1967م. وتعتبر بمثابة خروج عن الإجماع الدولي وتهديد خطير للأمن والسلم العالميين، وقد سبق لأمريكا أن اقترحت بحث قضية القدس ضمن مفاوضات الحل النهائي، لتأتي هذه الإدارة لتنسف كل ذلك، بل واستماتت في الترويج لمشروعها الخاص المعروف بصفقة القرن باللين تارة وبالإكراه أحيانا، وهو المشروع الذي أقل ما يوصف به بأنه كارثة ونائبة من نوائب الدهر، وبهذا فقد فقدت الولايات المتحدة دور الوسيط في هذا الصراع.

  1. الملف الصيني:

تعامل الرئيس ترامب مع هذا الملف بضيق أفق شديد على المستويين الاقتصادي والسياسي، حيث شن حرباً تجارية على الصين، وأوقف التعامل مع شركة هواوي العملاقة، ومنع الشركات الأمريكية، وشركات حلفائها من بيع التكنولوجيا والبرمجيات إليها، أو التعامل معها، خصوصاً إسناد مشاريع البنية التحتية لتقنية الجيل الخامس، وفرض تعرفة جمركية عالية على المنتجات الصينية، ما أدى إلى تراجع حاد في الصادرات الصينية، وهو ما أثر على الواردات الصينية من المواد الخام، ومنها النفط الذي هوت أسعاره إلى مستويات قياسية، وتسبب في عجوزات هائلة في موازنات الدول المتعمدة على تصدير النفط.

  1. الملف الإيراني:

شكل الملف الإيراني واحداً من أعقد المشاكل التي واجهت الحكومات الأمريكية إن لم يكن أعقدها على الإطلاق، وفي عهد الرئيس ترامب بلغ القلق أقصاه، والتوتر مداه، وانهارت الثقة المتبادلة تماماً، ووصل التصعيد إلى مستويات حبس العالم معها أنفاسه، وكان مصدر كل ذلك طموح إيران في لعب دور إقليمي، تراه مستحقاً بحكم التاريخ والواقع الجيوسياسي، يقابله نظرة شك كبيرة لدى الغرب وبعض دول المحيط، تغذيها رغبة صهيوإسرائلية جامحة في إشعال فتيل الحرب، وإبقاء التوتر على أشده في هذه المنطقة الحساسة من العالم، حتى لا تتفرغ شعوبها لعملية البناء والتنمية، وأصبح النزاع على البرنامجين النووي والصاروخي لإيران أحد تجليات هذا التدافع، وتعبيرا عن صراع المصالح الملتهب في منطقة ذات ثروات طائلة مؤكدة ومقدرة، وكانت أبرز محطات هذا الخلاف هو انسحاب الولايات المتحدة عام 2018م. من الاتفاق النووي (5+1). واستمر السجال حامياً بين البلدين، وازدادت الأوضاع سخونة بعد إسقاط إيران للطائرة الأمريكية المسيرة ذات التكنولوجيا الحساسة في يونيو 2019م. حينها وقف العالم على أطراف أصابعه وسط تصريحات متشنجة من الطرفين. وعلى وجه العموم لم تستطع الولايات المتحدة - رغم كل إجراءاتها - انتزاع تنازلات إيرانية مهمة، وظلت علاقة البلدين تدور في حلقة مفرغة من التهديد والوعيد المتبادل.

  1. المنظمات الدولية:

ناصب الرئيس ترامب المُنظمات الدولية العداء وانسحب من العديد من الاتفاقيات والمنظمات الدولية، تحت أعذار شتى، فقد انسحب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، كما انسحب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عام 2018، وانسحب من منظمة اليونسكو في نهاية نفس العام، وانسحب من اتفاقية باريس للمناخ الهادفة إلى الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري عام 2019، وأكمل هذا المسلسل بانسحابه من منظمة الصحة العالمية بتاريخ 7 يوليو 2020.