كيف نخلق الوظائف؟!

حاتم الطائي

◄ اختلاف جوهري بين خلق الوظائف وتوفيرها.. وتوسعة الاقتصاد ضرورة

◄ خفض معدلات الفائدة ومزيد من التسهيلات والإعفاءات لضمان نمو القطاع الخاص

◄ التحول الرقمي يفتح آفاقا لا نهائية أمام فرص عمل للشباب

الشُّغل الشاغل للحكومة في الوقت الراهن يتمركز حول كيفية خلق الوظائف، والحقُّ أن الجهات المعنية -وعلى رأسها وزارة العمل ووزارة الاقتصاد- تعكف على البحث عن أنجع الطرق من أجل خلق الوظائف وتوفيرها للمواطنين، وثمة اختلاف في المعنى، إذا ما أدركناه نكون قد وضعنا أيدينا على جانب مؤثر في آلية حل هذا التحدي.

الحديثُ عن توفير الوظائف يعني قيام الجهات المختصة بالبحث عن فرص وظيفية للباحثين عن عمل، إما من خلال قرارات وزارية وعلى رأسها قرارات تعمين الوظائف، وهي آلية فاعلة بدرجة ما، أو من خلال إلزام الشركات والمؤسسات بنسب تعمين محددة بصرف النظر عن طبيعة الوظيفة المخصصة للمواطن، وهنا مكمن الضعف؛ حيث تسبَّبت مثل هذه القرارات في إيجاد "التوظيف الوهمي" في بعض المؤسسات، والتي لجأت إلى ترتيب أوراقها أمام الجهات المعنية من خلال تعيين مواطنين في وظائف لم تقدم لهم أي خبرات، وهؤلاء الموظفون لم يستفيدوا سوى بالراتب الشهري، لكنهم لم يتطوروا مهنيًّا ولم يكتسبوا أية خبرات ولم يحصلوا على أية ترقيات وظيفية. لذلك؛ لجأت وزارة العمل، إلى تبني نهج التدريب والتأهيل أولا، من خلال العديد من البرامج الجديرة بالثناء، وعلى رأسها برنامج "خبرات"، والذي يستهدف تدريب وتأهيل 10 آلاف باحث وباحثة عن عمل، إضافة لجهود مؤسسات أخرى في هذا الجانب؛ سواء كانت شركات القطاع الخاص التي تقوم بواجبها الوطني تجاه أبناء هذا البلد العزيز، أو مؤسسات المجتمع المدني مثل الجمعية العمانية لتنمية الموارد البشرية.

ومن بين الإجراءات التي تتبعها مؤسسات الدولة أيضًا لتوفير وظائف: تشجيع الباحثين عن عمل للتوجه نحو التشغيل الذاتي أو تأسيس مؤسسات صغيرة ومتوسطة، أو العمل في حرفة ما؛ مثل الصيد أو الصناعات الحرفية التراثية، وهنا يُمكن القول إنَّ الجهود المبذولة في هذا الجانب، أثمرت توفير وظائف حقيقية للباحثين عن عمل، والأمثلة متعددة والنماذج الواعدة التي حقَّقت نجاحات لا يتسع المقام لذكرها، لكن أينما توجَّهنا في أي ولاية نجد بصمة الشباب العماني المثابر جلية وواضحة وضوح الشمس، فمتى ما وضعت قدميك في أي مشروع إلا وبصمة شبابنا واضحة، من حيث العناية بالمُنتج المقدم أو الارتقاء بجودة الخدمة، ورعاية الزبائن. ورغم ما حققته مبادرات التشغيل الذاتي من نجاحات، إلا أنها سجلت إخفاقات مع البعض؛ نتيجة غياب التوجيه والمتابعة في بعض الأحيان، أو استعجال رائد العمل الربح السريع وعدم تحليه بالنفس الطويل لتحقيق النجاح المأمول.

لكن وفي الجهة الأخرى، عندما نتحدث عن خلق الوظائف، فإننا نشير إلى مفهوم يختلف تماما عن مسألة توفير الوظائف؛ فخلق الوظائف يعني تبنِّي إستراتيجية وطنية طموحة تضع على قائمة أولوياتها أولا: توسعة الاقتصاد، وثانيا: بناء مسار موازٍ للتوظيف التقليدي.

ويلزم لوضع وتطبيق إستراتيجية وطنية لخلق الوظائف أنْ تعمل الجهات المعنية على اتخاذ حزمة من الإجراءات لضمان توسعة الاقتصاد وخلق بيئة جاذبة للاستثمارات؛ من خلال تحفيز نمو القطاع الخاص من خلال التوسُّع في تطبيق نسبة الـ10% المتعلقة بإسناد المشاريع والمشتريات الحكومية من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وأيضا تسهيل إجراءات إنشاء النشاط الاقتصادي، وسرعة البت فيه، فما زلنا نرى مشروعات تنتظر توقيع أحد المسؤولين أو موافقة إحدى الجهات، لشهور وربما سنوات. يتعيَّن كذلك إطلاق برامج تثقيفية للباحثين عن عمل؛ لتوعيتهم بطبيعة سوق العمل في الوقت الراهن في ظل الأزمات والتحولات الجذرية في المنظومة الاقتصادية -محليا وعالميا- وهذا يتطلَّب عقد دورات تدريب تقدمها نماذج مُلهمة حقَّقت النجاح في العمل الحر والقطاع الخاص، واستطاعتْ أن تتجاوز التحديات الاجتماعية، وتمكنت من محو المعتقدات الخاطئة عن العمل في بعض القطاعات، أو فهم الباحث عن عمل لطبيعة عمله في وظيفة ما، وعلى رأسها أن يُدرك الباحث عن عمل أنَّ باجتهاده ومثابرته فقط يستطيع الحفاظ على وظيفته، وليس لأن القانون يضمن له البقاء في الوظيفة حتى لو لم يُنجِز أي مهام! أيضا على أبنائنا من الباحثين عن عمل المنافسة على الوظائف في القطاعات الواعدة؛ وعلى رأسها قطاع الضيافة والفندقة، فشركتا الطيران الرَّسميتان يعمل بهما الكثير من غير العُمانيين، بينما هذه الوظائف يُمكن للشباب العماني أن يشغلها، لا سيما إذا ما تلقَّى التدريب والتأهيل اللازميْن. الحال لا تختلف أيضا عن قطاع المبيعات والخدمات والتجزئة، وهي قطاعات تزخر بالعديد من الوظائف التي يستطيع الباحث عن عمل الانخراط فيها، والترقِّي بعد سنتين أو 3 سنوات لتولي وظيفة قيادية أو إشرافية، تتيح له نقل ما اكتسبه من خبرات لمن يأتي بعده.

والعنصر الأكثر أهمية، يتمثل في ضرورة تبني أدوات العصر ونشر الثقافة الرقمية بين جموع الباحثين عن عمل؛ فالتحول الرقمي من حولنا يتزايد لحظيًّا، والعديد من أصحاب الشركات الكبرى حول العالم بدأوا بفكرة بسيطة تعتمد على توظيف التقنيات، ومن ثمَّ نمت هذه الشركات وتحولت إلى مؤسسات عملاقة تنتشر في أرجاء المعمورة، وهذا الأمر ليس بعيد المنال؛ فالنماذج العُمانية أثبتت أيضا كفاءة في المجال الرقمي، فشركات الأمن السيبراني والمؤسسات المعتمدة على تقنيات الذكاء الاصطناعي، الكثير منها تأسس على أيدي شباب عُماني مجتهد، أتقن المجال وبرع فيه.

وإذا ما تواصلت جهود توفير وخلق الوظائف نستطيع القول إنَّ آفاقا جديدة ستتفتح لعشرات الآلاف من الباحثين عن عمل، وأكاد أُجزم بأننا في غضون سنوات قليلة سنتمكن من خفض نسبة الباحثين عن عمل إلى الحدود الدنيا؛ لأنَّ توليد الوظائف وقتها سيصل إلى أعلى معدلاته، ولن يتراجع طالما حافظنا على تطوير السياسات والتشريعات المعززة لأي توجه نسلكه.

لكن في المقابل، يتعيَّن بناء مسارٍ موازٍ لهاتين الركيزتين: توفير وخلق الوظائف، وذاك المسار يعتمد في جوهره على ضخِّ حزم تحفيزية في القطاع الخاص من أجل تحقيق النمو الأفقي والرأسي لمؤسساته، وأنْ نردم الفجوة -التي أخذت في الظهور خلال السنوات الخمس الماضية- بين الطبقات الاجتماعية، ومن ثمَّ تفادي التوزيع غير العادل للثروات، وإدراك مدى التغيرات الاجتماعية والاقتصادية بصفة دائمة لكي نتمكن من وضع الخطط اللازمة لكل مرحلة. ومن بين الإجراءات العاجلة أيضا: ضرورة معالجة الفجوة التمويلية، وتوفير السيولة في الأسواق، وخفض معدلات الفائدة لأدنى مستوى مُمكن؛ فلا يُعقل أن تصل المدخرات في القطاع المصرفي إلى ما يزيد على 20 مليار ريال، بينما أغلب القروض المقدَّمة استهلاكية، لا تعود بفائدة حقيقية على الاقتصاد؛ باستثناء الحفاظ على مُعدلات تضخُّم مقبولة! كما أنه في ظل تحديات جائحة كورونا، لا بديلَ عن تقديم إعفاءات ضريبية لمن يُوظف المزيد من المواطنين، فضلا عن تسهيلات أخرى مثل إمكانية الحصول على قروض ميسَّرة ومنخفضة الفائدة، من أجل التوسع وزيادة الأنشطة الاقتصادية.

وختامًا.. إنَّ اقتصادنا الوطني قادر على خلق وظائف، لكن لا بُد في الوقت نفسه من التسهيلات وسن التشريعات المُعززة لذلك، وزيادة المحفزات والتوسع في المشاريع العامة، وتقوية الحلقات المتشابكة للعرض والطلب في الأسواق، عندئذ سيكون الحديث عن أزمة توظيف جزءا من الماضي!