القوة الذكية

د. محمد بن عوض المشيخي

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

شهد عقد التسعينات من القرن الفائت ظهور العديد من المفاهيم والمصطلحات السياسية والإعلامية والثقافية بالتزامن مع سيطرة أمريكا على العالم كقطب أحادي، وذلك بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار النظام الشيوعي في عقر داره في موسكو. ولعل مصطلحات: (القوة الناعمة والعولمة والقوة الذكية) من أبرز هذه المفاهيم التي انتشرت على نطاق واسع في رحاب جامعات العالم وعبر وسائل الإعلام التقليدية ومنصات الإعلام الجديد على حدٍ سواء، وإن كان المفهوم الأخير يعود إلى مطلع الألفية الجديدة. أما مفهوم القوة الناعمة (Soft Power) الذي يُمكن وصفه باختصار شديد بأنَّه "القدرة على الجذب والضم بدون الإكراه" فيعود إلى البروفيسور جوزيف ناي الأستاذ الجامعي المرموق في جامعة هارفرد الأمريكية الذي صاغ تعريف القوة الناعمة في كتابه الصادر عام 2004م بعنوان: "القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية". فالقوة الناعمة تعني الإمكانات الاقتصادية، والمهارات العلمية، والإرث الحضاري التي تملكها الدولة أو الفرد في القدرة على الجدب والسيطرة الطوعية والرغبة الأكيدة بدون إكراه من الطرف الآخر المستهدف أو المتجاوب طوعياً مع توجهات الدولة أو الحكومة التي تمارس أساليب ما يُعرف بالقوة الناعمة. والقوة الناعمة هي عكس القوة العسكرية التي تستخدم لفرض الأمر الواقع على الآخرين، كما هو الحال في الحرب العالمية الأولى والثانية عندما اجتاحت فيها الجيوش المدججة بالسلاح الشعوب المسالمة في أوروبا ودول العالم بشكل عام. ومع مرور الأيام أصبح مصطلح القوة الناعمة وسيلة فعَّالة ونافدة وقوية تستخدمه دول كثيرة في إبراز إنجازاتها ونجاحاتها في مُختلف الميادين العلمية والثقافية والسياسية في الداخل وخارج الحدود الوطنية. وتتمثل القوة الناعمة لدولة ما في تأثيرها وجاذبيتها ومصداقيتها على مستوى العالم، وكذلك نزاهة ونجاح السلطة التنفيذية التي تقود الدولة وتسير أمورها الحياتية وتطبيقها للحوكمة، وبعدها عن الفساد وقدرتها على تحقيق أهدافها المرسومة مسبقاً. أما المعيار الثالث فيمثل ثقافة المجتمع وتاريخه ومدى جاذبية هذه الثقافة للآخرين من أصحاب الثقافات الأخرى. كما أن النظام التعليمي المطبق ومساهمة الدولة في الابتكارات وبراءات الاختراع يعتبر واحداً من أهم عناصر الجذب الذي يقود إلى نجاح القوة الناعمة. وتعد السياسة الخارجية ركيزة أساسية من ركائز الدولة التي تبحث عن مكان رفيع في هذا الكون تحت الشمس.  

من هنا بدأت الجامعات ومراكز الدراسات الاستراتيجية منذ عدة سنوات تدرس وترصد القوة الناعمة لدول العالم وتضع درجات ومعايير علمية لتقييم هذه القوة المُتعاظمة. وأحدث هذه الإصدارات دراسة مركز (بورتلاند) الذي يصدر كل خمس سنوات؛ إذ كشف التصنيف الذي يضم أقوى ثلاثين دولة في العالم في مؤشر القوة الناعمة الدولية لعام 2019م. وقد تصدرت 16 دولة أوروبية هذه القائمة، بينما تراجعت الولايات المُتحدة الأمريكية إلى المركز الخامس بعد السويد، وذلك بسبب سياسات ترامب المتهورة. فقد كشفت العديد من الدراسات احتلال أمريكا المركز الأول عالمياً في القوة الناعمة عام 2014م. وقد غابت عن قائمة الثلاثين كل الدول العربية والإسلامية، باستثناء جمهورية تُركيا التي كانت في ذيل القائمة قبل روسيا في المركز التاسع والعشرين.

  أما مفهوم ما يُعرف بالقوة الذكية Smart power))‏؛ فيعني خليطاً من القوة الصلبة والقوة الناعمة. وتعرّفه الموسوعات العلمية بأنَّه "منهج يؤكد ضرورة وجود جيش قوي، لكنه يُستثمر أيضًا بكثافة في التحالفات والشراكات والمؤسسات من جميع المستويات لتوسيع نفوذ الأطراف وإثبات شرعية أفعالها". وتعتبر السياسية الأمريكية (سوزان نوسل) من أوائل الذين استخدموا ما يعرف اليوم بالقوة الذكية، وذلك في مقال لها بعنوان: (القوة الذكية: استعادة الأممية اللبرالية) في عام2004.

لقد أجمع معظم المفكرين الغربيين على وضع الدين الإسلامي في خانة العدو البديل للحضارة الغربية بنهاية الحرب الباردة، كما توضح كتابات المبشرين بعصر العولمة وسيطرة الرأسماليين من المنظرين الغربيين على العالم حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فهؤلاء من أمثال "صموئيل هنتنجتون، وفرانسيس فوكوياما" حرضوا على الإسلام والمسلمين واتهموهم زورًا بالإرهاب والتطرف وعدم قبول الآخر، فعلى سبيل المثال، قبيل تفجيرات 11 من سبتمبر 2001م كشفت دراسة طبقت على سكان مدينة نيويورك أنَّ 45 % من الأمريكيين لا يفرقون بين الإسلام الذي هو دين السلام وبين الإرهاب، فالإسلام هو مرادف للإرهاب من وجهة نظر أفراد العينة. لقد طوع الغرب وفي مُقدمتهم أمريكا قوتهم اللينة والصلبة لمحاربة الإسلام؛ ففي العقد الأول من الألفية الثالثة تمَّ احتلال أفغانستان والعراق، كما تم قبل ذلك زرع العديد من المُنظمات السرية التي تمارس الإرهاب باسم الإسلام في جسد الأمة؛ ففي السبعينيات والثمانينيات القرن العشرين، صنع (بريجنسكي) مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس الأسبق كارتر النسخة الجهادية الأولى للأفغان العرب الذين جاهدوا بحسن نيَّة ضد القوات السوفيتية في أفغانستان، ثم ظهرت (داعش) التي استخدمت من جديد أسطوانة الجهاد للتأثير على الشباب في مختلف دول العالم للانضمام إلى ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية، إذ كان يتم تجنيد ثلاثة آلاف شخص يومياً عبر التكنولوجيا الغربية كوسائل التواصل الاجتماعي ومختلف منصات الإعلام الرقمي على الإنترنت.

عُمانيا، تملك السلطنة مقومات فريدة للقوة الناعمة، وعوامل جذب قوية؛ لم تستغل بالشكل المطلوب حتى الآن؛ بسبب عدم نجاحنا في توصيل ما يزخر به هذا البلد من كنوز حضارية وإرث تاريخي عريق، وسياسة داخلية وخارجية مُتزنة شعارها السلام إلى العالم الخارجي. فلا يُمكن لدولة من الدول أن تنهض اقتصادياً وتنجح في تنمية مواردها الطبيعية بمعزل عن الدول والشعوب المحيطة بها. فالإعلام العماني الحكومي منه والخاص يجب أن يلعب دورا مساندا وفعالاً في إبراز القوة الناعمة للسلطنة، وذلك من خلال التركيز على جودة ومضمون الرسالة الإعلامية وتحديد الجمهور في دول بعينها لتحقيق الأهداف الوطنية لرؤية 2040. لقد أحرزت السلطنة أفضل المراكز في مجال الأمن والاستقرار؛ إذ لم تشهد أي تفجيرات أو أعمال إرهابية عبر العقود الماضية، وذلك بفضل الله وحكمة القيادة العمانية وتميز المجتمع العماني بالوسطية والاعتدال عن غيره من المجتمعات في دول العالم. وعلى الرغم من ذلك لم نجنِ ما يطمح إليه المجتمع في مجالات حيوية كالاستثمارات الأجنبية والسياحة واستغلال الموارد الطبيعية والموقع الاستراتيجي الفريد بين قارات العالم بالشكل الأمثل. والشيء الجدير بالذكر هنا أنَّ مُعظم شعوب العالم لا يزالون جاهلين أين تقع السلطنة على خارطة العالم، ففي آخر زيارة لي للعاصمة اليونانية (أثينا) لم أستطع العثور على  يوناني واحد ممن قابلتهم يعرف عمان، وحدث ذلك من قبل في أستراليا خلال عملي كأستاذ زائر في جامعة (Queensland) عام 2007م باستثناء المجتمع الجامعي كالأساتذة والإداريين الذين يقابلون الطلبة المبعوثين من وزارة التعليم العالي.     

وفي الختام، فإذا كنَّا اليوم نعيش منذ عقود عصر السماوات المفتوحة والقرية الكونية، فقد حان الوقت لإطلاق قناة ثقافية عُمانية ناطقة باللغة الإنجليزية تخصص لها موازنة تشغيلية وكوادر عمانية متخصصة في الإعلام الدولي، ويمكن الاستفادة من الأفلام التسجيلية والوثائقية الموجودة من قبل في أرشيف التلفزيون بحيث يتم ترجمتها إلى عدة لغات عالمية. كما أصبحت الحاجة مُلحة لتشكيل لجنة وزارية تتولى رسم خارطة طريق مستقبلية للقوة الناعمة العمانية وتعظيمها بالتزامن مع الخطط التنموية الأخرى التي يتم تنفيذها في الوقت الحالي.