القاضي الشاعر مرهف الإحساس فصيح اللسان

الشيخ عيسى بن صالح الطائي.. ينبوع شعر يروي أفلاج الأدب

◄ شاعر فذ تواصل مع العالم رغم صعوبة الاتصالات و"قسوة" الظروف

◄ أول عُماني يكتب في صحيفة الأهرام المصرية عام 1910

◄ صاحب "القصيدة السينية" في تهنئة السلطان سعيد بن تيمور بمولد نجله السلطان قابوس

استعراض - مريم البادية

78 عامًا مضت على رحيل الشيخ عيسى بن صالح بن عامر بن سعيد بن خلف الطائي العُماني؛ الشاعر والأديب والفقيه وقاضي قضاة مسقط، الذي جاء إلى عالمنا في العام 1889 ميلادية (1306هـ)، وعاش حياة زاخرة بالعلم والفكر والثقافة والإبداع، لكنَّ النتاجَ الأدبيَّ والفكريَّ الموثَّق والمحفوظ لم يشق طريقا له، كي يصل إلينا في القرن الحادي والعشرين، بل تعرض للاندثار لظروف عِدة، باستثناء ذِكرها في عدد من المراجع والكتب باقتضاب، فلم يجد ذاك النتاج الأدبي مساحةً بين الكتب على أرفف المكتبات، سوى عددٍ محدودٍ من القصائد الثرية في مَعانيها، البديعة في جمالياتها، الزاخرة بالتمكُّن من ناصية القوافي وإحكام اليد على شطريْ القصيد، فأنتج أشعارًا عكست ذاتا شاعرة، تملك من الثقافة ما لا يُحصى، ومن العلوم والمعارف ما تفيض به أمَّهات الكتب والمراجع.

ويُمكن القول إنَّ المكتبة العمانية والعربية على وجه العموم، خسرت الكثير من المعرفة والثقافة، نتيجة ضياع هذا المخزون الشعري والفكري الذي أنتجته قريحة الشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائي؛ فلم يُجمع له ديوان واحد، بل لم يُروَ عنه رؤية فكرية حول مختلف القضايا والأفكار، رغم تناولها عبر التاريخ الشفهي والإرث الثقافي غير المُدوّن. لكننا يمكن أن نُمنِّي النفس بما رُصد في بعض الكتب والوثائق المتناثرة، والتي تنوَّعت بين الرثاء والتهنئة والأشعار الوطنية، إلى جانب ما وَرَد في كتابه المطبوع "القصائد العُمانية في الرحلة البارونية"، والذي يُعد العمل الأدبي الأوحد الذي رأى النور، وحصل على مكانته اللائقة في الذاكرة العمانية، وقد وصل إجمالي الأعمال الموثقة والمدونة إلى 15 قصيدة فقط من بين أعمال عدة.

القصائد العمانية في الرحلة البارونية.jpg
 

والمتتبِّع لسيرة الشيخ عيسى بن صالح الطائي ويقتفي أثره، يتَّضح له أنَّ الشيخ القاضي الفقيه والشاعر العلامة وُلد في العام 1306هـ الموافق 1889م في ولاية سمائل الواقعة اليوم إداريا ضمن محافظة الداخلية، والتي كان يُطلق عليها "عُمان الداخل"، لكنه نشأ وترعرع في ولاية بوشر بمحافظة مسقط (الآن)، وَسط أسرة عُرفت بحب العلم والمعارف؛ حيث تتلمذ على يد الشيخ حمد بن عبيد السليمي، وربيعة بن أسد الكندي، وسليمان بن محمد الكندي، وعبيد بن فرحان السعدي، وسعيد بن ناصر الكندي، وجميعهم علماء أجلاء، تشرَّبوا العلوم الدينية واللغوية وعلوم الحياة من السلف الصالح والأولين الذين نَهلوا من المعارف ما لا تحصيه الحواسيب الآلية اليوم، ولا تفهمه خوارزميات الذكاء الاصطناعي؛ فقد حَبَا الله هؤلاء العلماء وأولئك النخبة من الرعيل الأول في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، قُدرات فكرية ومعرفية نادرة بمعايير عصرنا الآن، فأوتُوا من العلم والمعرفة ما مكنهم من تسيير أمور حياتهم برؤية مستنيرة أساسها العلم الفقهي وتجارب الحياة الآنية.

ولقد تدرَّج شاعرنا الجليل في مراحل تعليمه، وترقَّى حتى عمل مساعدًا للشيخ أبي عبيد السليمي في سلك القضاء بسمائل، وبعدها عمل في المحكمة الشرعية بمسقط، إلى أنْ عُين قاضيا بمسقط في العام 1928 بقرار من السلطان تيمور بن فيصل في ذاك الوقت، خلفا لسلفه المتوفَّى الشيخ راشد بن عزيز الخصيبي، وعمل طوال حياته رئيسا للقضاة في مسقط حتى وفاته.

ولم تكُن الإسهامات الأدبية للشيخ عيسى الطائي معروفة على نطاق واسع؛ فهو: "نتاج قلم لم يسبق أن طُبِع له تأليف، بل لم يُعرف له أثر علمي مكتوب سوى قصائده المتناثرة"، وقيل إنها جُمِعت في "ديوان مفقود"، حسبما ورد في كتاب "القصائد العمانية في الرحلة البارونية"، الذي ألَّفه الشيخ عيسى الطائي وراجعه وصحَّحه سلطان بن مبارك بن حمد الشيباني، الصادر في العام 2013 عن مؤسسة الرؤيا للصحافة والنشر، وذاكرة عمان، ومكتبة مسقط.

أشعار وأبيات

في العام 1359هـ/1940م كتب الشيخ عيسى الطائي "سينية" في تهنئة السلطان سعيد بن تيمور بمولد نجله السلطان قابوس في صلالة.. قال فيها:

بُشرى فقد أحيى البشير نفوسا...

وأدار من خمر السرور كؤوسا

وافى يزف إلى البلاد بشائرا...

والكل أصبح بالهنا مأنوسا

وراح يقول في مُنتصفها:

في يوم مولده عُمان أشرقت..

وحنادس الظلماء صِرن شموسا

فرع تحدر من ذؤابة يعرب..

فيه نؤمل كل جرح يوسى

هو نجل أقيال وشبل قساور...

فالله  يكلؤ شخصه المحروسا

ولنا أن نقرأ أيضًا من بين قصائد الشيخ عيسى بن صالح الطائي تلك القصيدة التي قرَّضها في زمن الإمام سالم بن راشد الحروصي، والتي كتب في مطلعها هذا البيت:

للحق نور سناه مشرق أبدا...

لو أنكرته عيون ملؤها رمدا

كما كَتَب في مدح "أمحمد بن يوسف أطفيش الجزائري" عام 1910، والتي ألّفها في سن الشباب، وذاع صيتها حتى نُشرت في صحيفة الأهرام المصرية، ليكون أول عُماني ينشُر في هذه الصحيفة الغراء المرموقة، إلى جانب عدد من الصحف الجزائرية والتونسية، وكان مطلعها:

هل نسمة بالغرب طيبة الشذى...

تحيي فؤادا ذاب من حر الجوى

كما كتب قصيدة بائية في مدح الإمام سالم بن راشد الخروصي، وتتألف من 37 بيتا، نُشِرت في "نثر الخزام" للشاعر أبي سلام، وجاء في مطلعها:

أرى النصر وافي وهذي النجائب...

تخبّرنا عن بلوغ المطالب

وفي العام 1340، كتب قصيدة "ميمية في الشوق إلى مسقط"، بعدما أُبعد عنها إلى سمائل لمدة 7 سنوات؛ حيث قال عنه ابن أخيه عبدالله بن محمد بن صالح الطائي في كتابه "الأدب المعاصر في الخليج العربي"، إنَّه: "شاعر أحب بلاده ودعا لنهضتها، وجعل من مجلسه مجمعا لأدبائها، ومن اسمه واسطة للاتصال بإمارات الخليج العربي وسائر البلاد العربية، فكان القادم إلى مسقط يصل مسجلا اسمه، وكان الباحث عن عمان يتصل به..".

وجاءت مناسبة هذه "القصيدة الميمية" بعد أن نُفي أخوه واثنان من أبناء عمه وابن خاله الشاعر سليمان بن سعيد الكندي المعروف بـ"أبو سلام" إلى الهند، بينما استقر الشيخ عيسى الطائي في سمائل؛ حيث نظم قصيدة يُعبر فيها عن شوقه لمكان نشأته، ووصل صداها إلى السلطان تيمور بن فيصل، فتأثر بها السلطان؛ فاستدعاه من سمائل، وقرَّبه إليه بعد أن قضى سبع سنوات في سمائل، وكان مطلعها:

إذا لاح برق أو هديل ترنما...

تساقط مني الدمع فردا وتوأما

وأصبو اشتياقا للنسيم إذا سرى...

يعانق أفنان الرياض مهيمنا

وأكمل في منتصفها:

هو الملك السلطان (فيصل) الذي...

بسؤدده فوق السماكين قد سما

ولما رمتنى الحادثات بنبلها...

ونال حسودي ما أراد وأبرما

نزحت عن الأوطان لا عن إرادة...

وكيف يرد المرء أمرا محتما؟

فألقيت رحلي في بلاد عزيزة...

وخير بلاد حولها المجد خيما

الكتاب.jpg
 

وفي العام 1343هـ، كتب "رائية في الترحيب بمقدم سليمان باشا الباروني إلى عمان"، قالها في مأدبة أقامها له السيد نادر بن فيصل، وكان في مطلعها:

بشرى فقد وصل الحبيب الهاجر...

من بعدما حنت إليه ضمائر

وافي وقد وافى السرور يزفه...

نحو البلاد طلائع وبشائر

تاهت عُمان به فخارا مثلما...

اشتاقت إليه محافل ومنابر

وفي هذه القصيدة أوضح الشيخ عيسى مدى إعجابه بالباروني، والفخر الذي يُكنه العمانيون له، واصفا إياه بقوله "خدم الديانة والعدالة خدمة فكأنه عمر الرضي وعامر".

كما كتب في ذات العام "ميمية في الترحيب بزيارة الباروني لبوشر"؛ حيث كانت بوشر من أوائل الأماكن التي زارها الباروني، ووردت في كتابه "القصائد العمانية في الرحلة البارونية"، وقال في مطلعها:

أهلا بطلعة باسل مقدام...

ليث إذا اشتجر القنا بسام

أهلا بمن حاط الثغور بسيفه...

وحمى الحمى بمدافع وحسام

ومضى الشيخ في قصيدته ترحيبا وتهليلا بمقدم الباروني، مُعدِّدا صفات القوة والشجاعة التي يتحلى بها ضيف عمان.

وفي أواخر هذا العام، كتب "دالية في جواب الشاعر الميزاني أبي اليقظان إبراهيم بن عيسى"، مكونة من 20 بيتا وجميعها في كتاب "القصائد العمانية"،  وقال في مطلعها:

أيقظت منا أبا اليقظان من رقدا...

لما بعثت بنظم أنعش الكبدا

وفي العام 1345هـ، كتب "رائية في مدح الباروني واستنهاض أهل عمان لسلوك دربه وطريقته"، مشيرا إلى أهمية العلم والتحلي بالأخلاق الحسنة، والاستفادة من أخلاق الباروني والعلم الذي بين يديه، قال في مطلعها:

أقومي إن للعليا رجالا...

لهم في نيلها رأي وفكر

وكتب في العام ذاته "قافية في مدح الأديب الصحفي أبي اليقظان إبراهيم بن عيسى، وتهنئته بجريدته (وادي ميزاب)"، ونشرها الأخير في جريدته بعنوان "إحساس عُمان نحو وادي ميزاب"، وفيها سرد الشيخ أخبار عمان وزنجبار ذاك الوقت، كما امتدح الجريدة وما تقدمه من أخبار السلف والمجد الشامخ، وقال فيها:

صاح ذاك الربع عج تقض...

لست أنساه ولا أرضى عقوقه

كما أنَّ له ثلاث قصائد أخرى، لكن فقد تاريخ تأليفها وهي "سؤال نظمي وجهه للشيخ حمد بن عبيد السليمي"، تحدث فيها عن الفرق بين أسماء الذات الآلهية وأسماء الأفعال، و"مقطوعة في تخميس بيت تبارى فيه شعراء زمانه" أمثال الشيخ إبراهيم بن سيف الكندي والأديب هلال بن بدر البوسعيدي وغيرهما، وكان تخميس الشيخ عيسى:

حاذر فديتك أن تغر فتندما...

بمعاشر جعلوا المحرم مغنما

أما القصيدة الأخيرة، فكانت "رائية مشتركة بينه وبين ابن خاله الشاعر أبي سلام سليمان بن سعيد الكندي".

كتاب فريد

وكتاب "القصائد العمانية في الرحلة البارونية" هو الوحيد الذي كتبه الشيخ عيسى الطائي، وفيه رصد لتفاصيل رحلة الباروني سليمان بن عبدالله بن يحيى، المولود في جبل نفوسة بليبيا عام 1870م والمتوفَّى عام 1940. وتلقى الباروني تعليمه في جامع الزيتونة بتونس، وبعدها انتقل إلى الأزهر الشريف بمصر لينهل من العلوم الشرعية، ثم غادر إلى الجزائر ليزداد علما في معهد قطب الأئمة الشيخ امحمد بن يوسف أطفيش.

وكان شاعرنا المُبجل من المُولَعِين بأخبار كفاح الباروني؛ حيث أرسل إليه رسالة يتطلع فيها إلى لقائه عندما كان في زيارة إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج، ونُقلت هذه الرسالة عن طريق خاله الشيخ سعيد بن ناصر الكندي.

ثم زار الباروني عُمان وحل ضيفا على الشيخ عيسى الطائي، وذلك بتكليف رسمي من حكومة السلطان آنذاك، فعرفه خير المعرفة؛ الأمر الذي دفع الشيخ عيسى الطائي لتدوين رحلة الباروني إلى عمان إعجابا وتقديرا لمنجزاته وأعماله.

وسَرَد الشيخ عيسى الرحلة البارونية من مطلع عام 1343هـ إلى شهر رمضان أي قرابة 9 أشهر؛ حيث زار العامرات وبوشر وغلا والسيب والخوض وفنجا وسمائل، وتوقف بعدها فترة من الزمن بسبب مرضه؛ حيث لازم الفراش 4 أشهر، ثم قام بالرحلة الثانية لولايات المنطقة الشرقية، لكن المؤلف اكتفى بسرد الجزء الأول منها.

وأخيرًا.. إنْ كان ديوان الشيخ عيسى بن صالح الطائي تعرَّض للفقدان في بداية السبعينيات من القرن الماضي، إلا أنَّ القصائد المنشورة في مُختلف الدوريات والمراجع، تؤكد أننا أمام شاعر كبير، وشخصية سياسية فذة، عاصرتْ الأحداث وتواصلت مع العالم، رغم صعوبة التواصل آنذاك؛ مما يؤكد أن عُمان ولَّادة، وأن مَعِينها لا ينضب رغم التحديات والمتغيرات.

تعليق عبر الفيس بوك