الفقر وانحراف الأحداث

 

بيان بنت علي المهرية

محامية وباحثة ماجستير

Bayan_almahri@hotmail.com

 

إنَّ خطر انحراف الأحداث وتأثيره على الجريمة يشبه خطر الأمراض الوبائية وتأثيرها على سلامة المُجتمع وصحته، بدليل أنَّ هذا الموضوع قد دفع العديد من الباحثين وفقهاء القانون وعلم الاجتماع للبحث عن كيفية الوصول إلى دراسات مكثفة تعالج وتحد من انتشار هذه الظاهرة ووقاية المجتمع منها، وبطبيعة الحال توصلت العديد من الدراسات إلى أن العامل الاقتصادي له دور كبير جدًا في انحراف الأحداث الذين لم يبلغوا السن القانوني بعد، وقد لاقت ظاهرة الفقر وانحراف الأحداث محور اهتمامهم نظرًا لما يحدثه من تأثير على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع ككل. وعليه فإنَّ أي محاولة لإصلاح الحدث المُنحرف لها أهميتين أساسيتين تتمثلان في حاجة المجتمعات لبناء عنصر بشري فعَّال وكذلك الاهتمام بالرعاية الاجتماعية باعتبارها حقاً واجب الأداء على كل مواطن، لأنَّ هذا الإنسان -وإن كان صغير السن- إلا أنَّه يشكل أهم دور في بناء المجتمع وتنميته وتحقيق أقصى استثمار به وله.

وفي الواقع مفهوم انحراف الأحداث لیس من السهولة الوصول إليه نظرًا لتشعب الموضوع واختلاف وجهات النظر بين العلماء، فكلٌ منهم يفسر أو يعطي تعريفاً حسب انطلاق توجهاته الفكرية أو العلمية، وعلى هذا الأساس تم إطلاق مصطلح "الحدث الجانح"؛ وهو مصطلح قانوني يقصد به الحدث الذي ارتكب إحدى الجرائم أو تواجد فيه إحدى حالات التعرض للانحراف، وقد ربطت معظم القوانين هذا المصطلح بالسن العمري للحدث، وهو ما نصت عليه المادة (1) من قانون مساءلة الأحداث العماني بقولها إن الحدث الجانح هو: "كل من بلغ التاسعة ولم يكمل الثامنة عشرة وارتكب فعلاً يُعاقب عليه القانون"، وعلى اعتبار أن هذا النص قد حدد سن الحدث فقط وليس فكرة انحراف الأحداث ذاتها فإنِّه تظهر الحاجة إلى الرجوع للفقة والنظريات المفسرة للجرم وذلك من أجل معرفة الأسباب الأساسية الكامنة خلف الأفعال وظواهرها المجتمعية التي تحيط بها، وترتيبًا على ذلك تظهر نظرية "هرم ماسلو للحاجات" التي ترجع للعالم الأمريكي أبراهام ماسلو ومدى تأثير هذه النظرية على الفقر وانحراف الأحداث.

إنَّ الفقر وانحراف الأحداث حسب تطبيق هرم ماسلو للحاجات أو كما يطلق عليه "تدرج الحاجات" أو "تدرج ماسلو للحاجات" أو "هرم ماسلو" يرتبط بشكل أساسي بفكرة الدوافع البشرية أو حاجاته التي تحركه للقيام بالسلوك الجرمي، بمعنى أن كل فعل يقوم به الفرد يكون خلفه دافع أو حاجة تحركه. ويعتبر هذا الهرم من  أهم الدراسات التي اختصت بموضوع دوافع السلوك البشري وربطته بمفهوم الحاجات، ويقصد بالأخير القلق النفسي أو الاضطراب العاطفي أو عدم الشعور بالراحة في عدم إشباع الحاجة. وتطبيق ذلك يظهر في شعور الحدث بالحرمان من عدم توافر حاجياته الأساسية في إشباع دوافعه وإلا تعرض للضعف والكسل والخمول وأمور أخرى تنجر خلفها انحرافات خطيرة تؤدي به إلى ارتكاب الجريمة. وتتجسد هذه الحاجات حسب هرم ماسلو تصاعديًا بالحاجات الأساسية الأولية كالطعام والشراب، ثمَّ الأمن والسلام، ثم الانتماء ويليهم الحاجة إلى الاحترام، والمعرفة، والجماليات وختامًا بالحاجة إلى تحقيق الذات ورغباتها.

وعند إلقاء الضوء حول الآثار المترتبة على حرمان الحاجات كالغذاء والصحة والسكن الملائم والتعليم على اعتبار أنَّ هذه الحاجات هي الأساسية والمتعلقة بالعوامل الاقتصادية، فإننا نلاحظ بأنَّ هناك العديد من الدراسات التي تؤكد على وجود علاقة تزايد طردي بين العامل الاقتصادي والجريمة بصفة عامة وجنوح الأحداث بصفة خاصة. فقد قام فريق في الولايات المتحدة الأمريكية بدراسة (4600) حالة لأحداث منحرفين وقد تبين أنّ نسبة (%93) من هؤلاء الأحداث ينتمون إلى أسر فقيرة. بالإضافة إلى وجود دراسة أخرى في الجزائر تشير إلى أنَّ آباء الأحداث الجانحين أغلبهم يمارسون مهناً غير مُؤهلة مما يُؤكد أنَّ الفقر عامل مهم في تفسير انحراف الأحداث، وذلك في صورة لجوئهم إلى السرقة أو التسول أو القيام بأيِّ فعل جرمي فقط لإشباع حاجاتهم نظرًا لضعف العوامل الاقتصادية المتمثلة بالدخل الضعيف الذي يقف ثغرة أمام إشباع الحاجات، مما يُؤدي بدوره إلى انحراف الحدث.

وكذلك الحال بالنسبة لحاجة الحدث إلى السكن الملائم، حيث يعتبر السكن غير الملائم أو ظروف السكن الرديئة عاملا مهما جداً في تدمير نفسية الإنسان وصحة جسده، فافتقار الموارد المالية الضرورية يدفع الأسرة للبقاء في سكن غير ملائم وغير صحي؛ كأن يكون السكن لا يوفر ضروريات الحياة مما قد يؤثر خاصة على الأحداث وتحصيلهم الدراسي، وهذا ما أثبتته دراسات وأبحاث في لندن حول حصول جوائز مدرسية للأطفال الذين يعيشون في أحياء ملائمة أكثر من الأطفال الفقراء بسبب فقد منازلهم إلى إمكانيات تهيئة الطفل للمذاكرة بل وتكون البيئة سائد بها الضوضاء، بالإضافة إلى أنَّ هؤلاء الأطفال يجمعون بين الدراسة والعمل، ومادام أن الحدث موجود في ظل هذه الظروف والضغوطات النفسية فإنَّ سلوكه الاجتماعي يتأثر بشكل كبير، مما يُؤدي به إلى اضطرابات شخصية توصله إلى الانحراف، ولعل أهم ما ينتظر الأحداث في الشارع هو الرفقة السيئة -ربما- فيشعر الحدث بالخضوع والولاء والانتماء ويعتبر هذا النوع من الرفقة مؤثرين بأساليب عديدة خاصة مادام أن عوامل المحفزة للانحراف موجودة وبالتالي يسهل على الحدث الانسياق بهذا الطريق ومن ثمَّ الانحراف وارتكاب الجرم.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ العامل الاقتصادي قد يؤثر كذلك في عدم إشباع حاجة الحدث إلى التعليم، ونقصد هنا بالتعليم المعنى الحقيقي له، أي أن التعليم يصبح ضابط ذاتي وحصن يجنب صاحبه الانزلاق في المواقف الدافعة إلى الانحراف، وللأسف كثيرا ما يكون الفقر عثرة بين الحدث وحصوله على التعليم الوافر، وبالتالي يتم نزعهم من المدرسة من أجعل كسب لقمة العيش والعمل البسيط الذي يحقق ضرورياتهم. ويعد الفقر غالباً وراء عمل الأطفال في الدول النامية وهذا وفقاً لإحصائية لجنة حقوق الإنسان وحقوق الطفل في عام (2000م)، وقد تجنبت العديد من الدول هذا الأمر وكفلت حق الطفل في التعليم من خلال قوانينها ودساتيرها وفق ما يتناسب مع تشريعاتها.

وتطبيقًا على ما سلف، نرى أنَّ ظاهرة انحراف الأحداث مرتبطة بشكل أو بآخر بالحالة الاقتصادية للأسرة، وهذه المسألة يتفق عليها أغلب الباحثين حول انحراف الأحداث بالرغم من اختلاف وجهات نظرهم، وقد يكون الفقر أكثر ارتباطاً بها لكونه يولد بطبيعة الحال الحرمان من الحاجات الضرورية. وعند الوقوف على مدى تأثير هذه الأوضاع على الأحداث فإنها تظهر بشكل كبير على الأحداث أكثر من البالغين، بيد أن هذا الحرمان لا يقتصر على الحاجات الضرورية فقط وإنما يمس كذلك رغبات الإنسان بطبيعته البيولوجية، فالحدث الذي ينشأ في بيئة فقيرة تسمو عليه كافة المظاهر المتضمنة بسوء التغذية والجوع والقلق وغيرها، بل وقد يمتد إلى التفكك الأسري في بعض الأحيان. وكل هذه المظاهر تؤثر على الحدث نفسياً واجتماعياً وتربوياً وثقافياً وجسمانياً وبالتالي يصبح شخصاً مدفوعاً نحو إشباع حاجاته التي لم تكن كافية، ولا يستطيع أن يشبعها في إطار ما تفرضه عليه القيم والمعايير الاجتماعية حوله، مما يجعله في صراع بين ذاته والواقع الخارجي المحيط به من أجل أن يصل إلى درجة تحقيق الذات بغض النظر عن الوسيلة وإن كانت مريبة.

ولما كانت ظاهرة جنوح الأحداث في المجتمعات العربية تعتبر ظاهرة حديثة نسبيًا وذلك وفقًا للعادات والأعراف السائدة والمرتبطة بالدين الإسلامي الحنيف الذي يهتم بالجوانب الأخلاقية وتعزيزها منذ الصغر، إلا أنه في الوقت الراهن لا يوجد أي مجتمع يخلو من هذه الظواهر- للأسف- وفي الواقع فإنَّ المجتمع العماني لم يسبق له التعامل مع هذه الظاهرة، وإن كانت بعض الإحصائيات تشير إلى ارتفاع حالات انحراف الأحداث؛ إلا أننا نأمل في انخفاضها وتجنب أضرارها وفق التدابير التي تتبناها السلطنة ولله الحمد.. فما زالت السلطنة تمضي خطواتها الأولى في هذا المجال. وختامًا نسأل الله تعالى أن يُديم علينا نعمة الأمن والاستقرار وأن يكون كل مواطن ومقيم على أرضنا الحبيبة في رخاء وازدهار.

تعليق عبر الفيس بوك