أصابع

 

عبدالله الفارسي

لي صديق عزيز عاشق للسفر مفتون بالجمال، تهزه نسمات الجمال، وتبعثره مفاتن الغواني، روى لي موقفاً حدث معه في إحدى سفراته، سأرسمه لكم بريشتي المرتعشة، وسأعرضه عليكم بألواني المتمازجة المتعانقة.

يقول صديقي: في أوكرانيا لا شيء يُسبب لك الصداع سوى الجمال، ولا تُصاب بالحمى إلا من الفتنة.

في رحلة الطائرة الأوكرانية المتجهة من مدينة كييف إلى موسكو، كنت هناك، وسط الجمال الذي يصفعك من كل اتجاه، حذاري من التواجد في مزارع الجمال إذا كنت غير معتاد على السير فيها، ستتألم لا محالة!

يقول: الجمال الأوكراني لا يحتمل.. مزلزل.. يسبب الصداع ويطفئ الحمى في ذات الوقت، فخذ كل احتياطاتك القلبية حين تكون في أوكرانيا.

يقول الراوي: كثيرة تلك الأيادي التي صافحتنا وصافحناها، كثيرة تلك الأصابع التي لمستنا ولامسناها، لكن هناك أصابع لا تنسى أبدًا، أصابع لها عبق في الذاكرة، لها وخزة في الخاصرة، لها خضة في العاطفة، حين تضيء ذاكرتك بها تشتعل في داخلك كل شموع الحياة المنطفئة، حين تستيقظ ذاكراتك تنفجر كل بالوناتك المعبأة بالأرق واللوعة، ثم ترتفع أشرعتك عالية لتعانق الريح وتصافح المطر.

لا أنسى أبداً تلك اليد البيضاء كأنها لؤلؤ تايلندي ناصع، لا أنسى تلك الأصابع الناعمة كحرير صادق، الدافئة كخيمة بدوي في الصحراء غارق، لا أنسى تلك الأصابع التي وقعت على جبهتي لحظة وجع وصداع، فأحالت الوجع إلى شوق وعشق.. إنها أصابع مضيفة الطائرة الأوكرانية!

للعين ذاكرة عميقة وللبصر شهوة عنيفة، كانت امرأة من قطن.. امرأة من رذاذ.. امرأة من غمام.

حين قلت لها عندي صداع وأشعر بالبرد، أبرقت عينيها كنجمة بعيدة فسكبته على رأسي حزنا وعطفا ودفئاً وحناناً، وضعت يديها على جبهتي، فسالت روحي بين أصابعها رملا وماء، ثوان وربما أقل، ولكني ما زلت حتى اللحظة أشعر بقشعريرة أصابعها وهي تلتصق بجبهتي فتغرقها حنانا وحياة وشفاء.

قالت لي سأحضر لك حبة إسبرين وعصير برتقال، فأضحى صوتها عاصفة من المهدئات، وأمست يدها حدائق من الفاكهة.

ذهبت مسرعة كأنها تهرول، شعرت بهرولتها وكأنها تهز الطائرة هزًا، كان رأسي يرتج من الصداع والهذيان والحمى، جاءت تحمل معها قرصين إسبرين وعصير برتقال، قالت لي اعتدل حتى تتناول الإسبرين، حاولت مساعدتي على الاعتدال في مقعدي فالتصقت رائحتها بأنفي، فسكرت كمخمور هزيل لا يقاوم رائحة الشراب.

وقفت فوق رأسي تقول لي: هيا اشرب وكأنني طفلها المريض، وكأنني الراكب الوحيد في تلك الطائرة، وكأنني أمير السماء في تلك الساعة.

سحبت بطانية من الخزانة العلوية، وغطتني، لفلفلتني بها كطفل يتيم، وبالغت في تغطيتي كعجوز مكلوم.

غفوت بعدها مباشرة وغادرت روحي في نومة عميقة لم أستيقظ إلا بإصابعها وهي تلامس جبهتي مرة أخرى لتتأكد بأنَّ حرارتي انخفضت، أية أصابع هذه التي تمنحك الحياة، وتفجر الينابيع دفاقة في عروقك، أية أصابع هذه التي تجتث الموت من ظهرك، وتقتلع المرارة من صدرك.

قلت لها نعم انخفضت حرارتي شكراً لهذه الأصابع الحانية.. انطفأت حرارة جبهتي، واشتعلت حرائق أخرى في داخلي لم تنطفئ منذ تلك الرحلة البعيدة.

قبل هبوطنا من الطائرة، كانت على باب الطائرة تودع النازلين بابتسامات من نور وتهديهم ضحكات من ياسمين. تعمدت أن انتظر لأكون آخر النازلين، وآخر الحائزين على الياسمين. وحين رأتني ابتسمت كملاك لا ينتمي لطبقة التراب والطين.

وقالت: هل مازلت متصدعاً أيها العربي؟

قلت لها: أرغب أن تضعي يدك على جبهتي للمرة الأخيرة قبل أن أغادر، قالت: لماذا؟ قلت لها: لكي أستأصل الصداع من رأسي الى الأبد.

ضحكت بطهارة وقالت: لا لا، دع الصداع يزورك بين الحين والآخر لتتذكرني على الأقل، وإذا كنت لا ترغب في أن تتذكرني سأضع يدي على جبهتك!

قلت لها: لا لا أرجوك لا تضعيها، أرغب أن أتذكر هذه الأصابع درجة الإدمان، ومنذ ذلك اليوم أدمنني الصداع وأدمنته.

ويختم روايته قائلاً: سافرت مرات ومرات أبحث عن تلك الأصابع، في كل الطائرات في كل المطارات، أبحث عن تلك الأصابع الرقيقة، أو نوع شبيه بتلك الأصابع، ولم أعثر عليها!

ربما هي أصابع تلمسنا مرة واحدة في العمر، لعلها أصابع نلمسها مرة واحدة في الحياة.. إنها أصابع لا تتواجد بوفرة في الأرض، ولكننا ربما قد نراها بكثرة في السماء!!