كيف نصل للتعافي الاقتصادي؟

حاتم الطائي

الإجراءات الاقتصادية "ترياق مُر" لكنه حتمي ولا بديل عنه

الإشادة الدولية بـ"التوازن المالي" تؤكد أننا على المسار الصحيح

تخفيف قيود الإقراض للقطاع الخاص يدعم التعافي الاقتصادي

قضية تعافي أي اقتصاد عادة ما تربك الخبراء والمحللين، لا سيما في ظل أوضاع اقتصادية متقلبة وغير مستقرة؛ سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي والدولي، أضف إلى ذلك الأزمة الصحية التي تضرب العالم منذ بدء تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، وما أعقب ذاك -ولا يزال- من إجراءات احترازية تسببت في غلق الأنشطة الاقتصادية ليس في بلادنا وحسب، ولكن حول العالم.. فأيُّ تعافٍ اقتصادي يُتوقع أن نشهده في ظل هذه الضغوط غير المسبوقة؟

الإجابة يُمكن أن نتلمَّسها من خلال الإجراءات الحاسمة والضرورية التي أعلنتها الحكومة على مدى الأشهر القليلة الماضية، ومع علمنا بأنها قرارات يصفها البعض بـ"القاسية" و"غير المناسبة" لظروف المواطن، إلا أن نجاح هذه الإجراءات، يجنِّبنا الكثير من القرارات "الأشد قسوة" إذا صح التعبير. فلنتخيَّل سويًّا أن الحكومة لم تبدأ برنامج الإصلاح الاقتصادي والضريبي؟ ماذا لو لم تبحث الحكومة عن بدائل تمويلية لعجز الميزانية وظلت تدور في فلك الأوضاع السابقة؟ الإجابة: انهيار اقتصادي مع تخفيض سعر الريال وإجراءات اقتصادية مؤلمة! وهذا الوصف صحيح ولا مبالغة فيه، فعندما نتحدث عن عجز مالي يتزايد سنويا، ودين عام يتفاقم في غضون سنوات معدُودات، إذن فنحن كنا على وشك الدخول في نفق مظلم لا يعلم مداه إلا الله.

لكن.. هل ما سبق يأتي في سياق الدفاع والتبرير للقرارات الاقتصادية المُلحة التي اتخذتها الحكومة؟ من المؤكد أن ذلك ليس الهدف، ولا يمكن أصلا أن يكون هدفًا؛ فالحكومة جزء من نسيج هذا المجتمع، ويعمل فيها مختصون وخبراء وطنيون ويدركون جيدا الأوضاع المالية والاقتصادية للدولة والمواطن على حد سواء، لكنهم يملكون القدرة على التدخل الجراحي السريع والناجع، نعلم جميعا أنه تدخُّلٌ ستنتج عنه تحديات أخرى، لكنها بلا شك أقل شدة مما لو استمر الوضع السابق. لذلك نقول إن الهدف مما سبق من معطيات يتمثل في طرح قراءة عقلانية ومتوازنة، تحلِّل المشهد الاقتصادي الذي يتحكم في جميع مفاصل الحياة: اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا وفنيًّا، وحتى رياضيًّا. فالاقتصاد عصب الدولة، وعمود خيمة الوطن، بازدهاره ينتعش المجتمع وترتفع الرواتب وتتحقق الأرباح، بينما في حالات الانكماش يتراجع النمو وتقل الحركة التجارية ويسود الكساد، وذلك مما يعلمه غالبا معظم الناس.

ومع إشادة المؤسسات الدولية بما اتخذته الحكومة من إجراءات، وما نفَّذته من خطط وبرامج لتحقيق الاستدامة المالية وزيادة الإيرادات العامة للدولة، وما بذلته من جهود لأجل خفض عجز الميزانية، والحد من الصعود المتواصل للدين العام، فإنَّ ثمة تأكيدًا على أنَّ هذه الإجراءات آتت أكلها، وأننا بدأنا حصاد ثمار ما اتخذناه من قرارات. ونشير هنا إلى الإشادة التي قدمها صندوق النقد الدولي في ختام مشاورات المادة الرابعة من اتفاقية تأسيس الصندوق، والتي تنص على أن يجري المختصون بالصندوق مشاورات سنوية مع الدول الأعضاء للتباحث حول السياسات الاقتصادية والمالية لهذه الدولة. أهمية الإشادة لا تنبع فقط من كون رأي هذه المؤسسة الدولية سيُسهم في تعزيز التصنيف الائتماني للسلطنة لاحقا، ولا أنَّها توقعت تحقيق بلدنا لمعدل نمو يقترب من 2% بنهاية العام الجاري، بل إن الأهمية تأتي من أنَّ رأي خبراء الصندوق الدولي يُعتد به في الكثير من المؤسسات، ويعكس مدى نجاعة الخطط والبرامج التي تعكف حكومتنا على تنفيذها.

غير أنَّ القراءة الموضوعية والمتوازنة -كما ذكرتُ- تحتِّم أن نشير إلى نقاط الضعف التي ينبغي الإسراع في معالجتها، وليس فقط الحديث عنها في وسائل الإعلام على لسان المسؤولين، فما زلنا نطالب بإجراءات يسيرة وسهلة التنفيذ تعود على اقتصادنا الوطني بالنفع وترفد خزانة الدولة بملايين الريالات إن لم تكن مليارات.

وأوَّل هذه الأمور التي يتعيَّن مُعالجتها: تيسير الإجراءات وتبسيطها؛ إذ ما زلنا ندور في فلك هذه الأزمة منذ سنوات طويلة، فيأتي مسؤول ويقول إن وزارته بدأت تسهيل الإجراءات وتبسيطها، دون أنْ يدرك أنَّ ثمة تعطيلًا وإرباكًا وتعقيدًا في الإجراءات زاد عمَّا مضى!! فكم من مرة ذكر المسؤولون أنَّ "المحطة الواحدة" ستسهل على المستثمرين إنجاز معاملاتهم في دقائق معدودة، لكن نكتشف أن هذه الدقائق تتحول إلى شهور وفي بعض الأحيان سنوات. فالأمر لم يتغير كثيرا بالدرجة التي تجعلنا نقول إنَّ تغيُّرا جذريًّا قد حدث، ودليل ذلك أن حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- يؤكد في أكثر من موضع أهمية العمل على تبسيط الإجراءات، وأنَّ توجيهات جلالته السامية تصبُّ في هذا الاتجاه، فأين الخلل إذن؟! في رأيي أنَّ الخلل يكمن في ثقافة الموظف الحكومي أيضا، فالبعض يلجأ إلى التعقيد حتى لو كانت الإجراءات متيسِّرة.

من بين ما يجب أيضا القيام به: تعديل وتخفيف القيود على اقتراض مؤسسات وشركات القطاع الخاص؛ فمن المدهش أنَّ الأفراد الراغبين في الحصول على قروض استهلاكية -لا تقدم أي فائدة حقيقية للاقتصاد الوطني- تُقدَّم لهم التسهيلات، حتى إنَّنا نجد الكثير حاصلين على قرضين وربما 3 إلى جانب أقساط السيارة، بينما مؤسسة قطاع خاص ترغب في الاقتراض لتغطية الإنفاق أو التوسع أو افتتاح مشروع جديد، تواجه العراقيل والمعوقات والتسويف، ويُفرض عليها نسب فائدة خيالية، بل إنها مطالبة بتقديم ضمانات عينية تعادل قيمة القرض أو أكثر، فأي انقلاب للأوضاع نواجه! هل يُعقل أنَّ شركة قطاع خاص عندما تطلب قرضا لافتتاح مشُروع سيسهم في توظيف المئات من الباحثين عن عمل ويُدر دخلا على الدولة من خلال الإنتاج والصادرات، لا تستطيع الحصول عليه؛ بحُجَّة أنها لا تملك ضمانات! فما فائدة دراسة الجدوى؟ وما الحاجة إذن إلى إعداد تصوُّرات للمشروع عن أرباحه المحتملة وقدرته على الاستمرارية في أي قطاع؟

نقطة أخرى سبق أن ذكرتها، لكنَّني أعيد التأكيد عليها، وهنا خُطابي موجَّه إلى وزارة الإسكان والتخطيط العمراني، وأقترح بدء بيع أراضي حق الانتفاع بأثمان معقولة، وذلك سيعود بفوائد اقتصادية كبيرة، أولها: زيادة إيرادات الوزارة وبالتبعية إيرادات الدولة، ثانيها: يتيح ذلك للمشاريع الحاصلة على أرض بحق الانتفاع التقدم للبنوك والحصول على قروض للتوسع وزيادة الإنتاجية بموجب ملكية الأرض. ثالثا: انتعاش القطاع العقاري في السلطنة، فتمليك هذه الأراضي سيساعد الوزارة على إعادة ضخ الأموال في مشاريع إسكانية ووضع مخططات عمرانية.

وختامًا.. التعافي الاقتصادي لا يتحقَّق وحسب من خلال خطط الاستدامة المالية وتعزيز إيرادات الدولة عبر رفع الدعم، وهي جُهود مباركة ومطلوبة، لكن في الوقت نفسه يتعيَّن علينا أن نفكر خارج الصندوق، وأنْ نبدأ تنفيذ حلول غير تقليدية، تضمن توفير التمويل اللازم لكل من الحكومة والقطاع الخاص.