العقول المُعطِّلة!

د. صالح الفهدي

في زيارة معاينة النشاط التجاري المطلوب، دخل القائم بالزيارة برفقة بضعة موظفين، واتجه لمكتب زجاجي يقع في الجانب الغربي من المبنى، فقال فور أن وضع قدمه فيه: سيحترق الموظف الذي يداوم في هذا المكتب؟ عرفت أن هذا رجل سلبي على الفور، وأنه جاء ليعرقل تصريح النشاط المطلوب! سألته: من أي جهة تشرق الشمس؟ انتبه لسؤالي، وتدارك نفسه فقال: أقصد وقت الغروب! قلت: ما رأيك أن تنتظر حتى الغروب لتتحسس درجة الحرارة؟ قال: أقصد وقت الصيف! قلت وأنا أشير إلى مكيف الهواء أعلى رأسه: وماذا يفعل هذا المكيف، فسكت وخرج من المكتب!

توجه إلى مكان آخر، ونظر إلى ديكور السقف نظرةً مريبةً، فرأيت أن أخفف عليه ما كتم من مشاعر، فسألته: الديكور لم يعجبك، صحيح؟ قال: مائة بالمائة!! خرج واتجه إلى قاعة كبيرة، فقال: أنتم لا تحتاجون إلى قاعة كبيرة للتدريب، قلت له: هذا بدلاً من أن ترى سعتها عاملاً إيجابياً..! وجدت حينها أن عليَّ أن أوقف هذه المهزلة؛ لأن أمارات الإعاقة قد بدت واضحة، فقلت حازماً: لقد أضعت وقتي، وأضعتم وقتكم، لهذا أقول لكم بأنني ألغيت المشروع الذي جِئتم لزيارته، ألغيته تماماً، وليست لديَّ حاجة إليه بعد اليوم! شكراً جزيلاً، إلى هنا ويكفي..! فارتسمت الدهشة على وجوههم، وانعقدت ألسنتهم! كيف لصاحب مشروع أن يتنازل بكل سهولة عنه؟!   

هذه العقليات هي التي لم تُعِق مشاريع وطموحات وحسب، بل أعاقت وطناً من حركة التنمية، وحرمته من سيرورة التقدم والازدهار، لأنها عقليات تبحث عن إعاقة كل فكرة، وإجهاض كل مشروع، وعرقلة كل طموح!

عقليات عششت في كل مفاصل المصالح الخدمية حتى أثقلت كاهل البشر والوطن؛ عقليات جامدة، مُتخلِّفة لا تريد أن ترى التطوير، لا تريد أن تدعم، لا تريد أن تضع اسمها على اعتماد مشروع إلا بعد مشقة، وتململ، وتذلل، تبحث عن كل سبب وإن كان سخيفاً ليعيق التنمية، وما التنمية إلا الواجبات والمشاريع التي يطمح بها هذا، ويسعى إليها ذاك.

ذات يوم، قلت لمحمود جبريل رئيس مؤسسة جبريل للاستشارات التدريبية، والذي أصبح أول رئيس وزراء لحكومة ليبيا بعد الإطاحة بالرئيس الليبي معمر القذافي، وقد كنت أحضر ورشة تدريبية يحاضر فيها: القضية لا تتعلق بعقليات قديمة وجديدة، فالكثير من المديرين الذين يحضرون مثل هذه الندوات هم في عمر الشباب -وأقصد به الفترة العمرية لا العقلية- يعلمون في دواخلهم أنهم المسبب الرئيسي للكثير من المشاكل، لكنهم عند العودة إلى مكاتبهم يعودون إلى نفس طبائعهم وأفكارهم التي تعودوا عليها!

إنَّها الثقافة التي تجذرت في مفاصل الإدارة عندنا، خاصة تلك المسؤولة عن شؤون التنمية في مختلف المجالات، فالقضية لم تكن كما يقول البعض متعلقة بجيل قديم وآخر حديث، فكم من الحديث والشاب من يتسم بعقليات جامدة، معطلة تسعى جاهدةً إلى البحث عن دوافع وأسباب لإعاقة مشروع، أو تأخير تصريح.

نتساءل: ضد مَن؟ ضد مَن يتلذذون بعادة الإعاقة، والتأجيل، والتسويف، والمماطلة؟ هل ضد وطن أو ضد مواطن يريد أن يسهم بإضافة ما لوطنه؟! قلت لأحد مديري الدوائر في إحدى المصالح الخدمية بعد عام من وجود المعاملة في دائرته: سنحتفل معاً بذكرى مرور عام على الموضوع؟! وبعد العام الثاني قلت له: لقد تخليت عن المشروع، فلم أعد أملك الرغبة فيه! هكذا تُوأد الأفكار، وتُدفن الطموحات!

يقف الواحد حائراً منا إزاء بعض الخدمات، والتصاريح التي تأخذ سنوات بين تأخير زمني، وإعاقات مختلفة، وطلبات متنوعة، فيتساءل في نفسه: أليس لهذه الوحدات من مسؤولين يراقبون أداء وحداتهم، ويقيمون إنجاز موظفيهم؟!

دُعِيت ذات مرة من قبل وزير البيئة والشؤون المناخية السابق ليطلعني على سرعة استخراج التصاريح، فلما كنا في الدائرة المسؤولة عن التصاريح البيئية للمشاريع المختلفة، اتصل الوزير بأحد مندوبي الشركات التي حصلت على التصريح، ليسأله عن رأيه في سرعة الإنجاز، ويطلب منه تقييم أداء الدائرة وموظفيها، وهم يستمعون للمحادثة التي يجريها، فلماذا لا يقوم كل مسؤول في الوحدات الخدمية باستقصاء آراء المتعاملين مع وحدته ليعرف انطباعاتهم، ويتلمَّس آراءهم حتى تفيده في تقويم أداء الوحدة؟

إنَّ بعض الشركات تتواصل مع العميل بعد حصوله على خدمة معينة لتسأله عن رأيه في الخدمة، وهذه عادة تصبُّ في مصلحة الشركة نفسها لترتقي في أدائها، وتحسِّن نوعية خدماتها المقدمة للآخرين.

إنَّ تنمية الأوطان تحتاج عقليات ميسِّرة، ترى في كل مشروع دفعاً للتنمية، وفي كل فكرة سبباً للازدهار، وفي كل مخطط سعياً للتقدم، هذه العقليات هي التي يجب أن تتواجد في كل مفصل خدمي، لا العقليات المعطلة التي أعاقت سير التنمية، وأثقلت خطو الأوطان نحو مساعي التطوير..! يقول الكاتب أمين أمكاح: "العقول العقيمة لا تعطي أية مساحة للتنمية المستدامة والتطور السريع، أي أنها تقلل من وتيرة حدوث النهضة، بل وقد توقفها وتجعل إمكانية حصولها من المستحيلات".

البيروقراطية ليست قدراً علينا ونحن في القرن الواحد والعشرين، لهذا فإنه لا حلَّ إلا بالتخلص من العقليات المعطِّلة بتغيير ثقافتها، وإعادة تشكيل مفاهيمها المغلوطة، وذلك بوسائل شتى منها: تغيير الثقافة التنظيمية، واستخدام الأنظمة الإلكترونية التي لا تترك لهم مجالا للتعطيل، واستخدام العميل السري الذي يقيم أداء العاملين، والتواصل مع المستفيدين من الخدمات لسماع آرائهم فيها.. وسائل كثيرة لا تعدم إن كانت هناك إرادة لتغيير ثقافة العقول المعطلة التي ليس لها من موضع في عصر الذكاء الاصطناعي، وسرعة تقدم الأوطان، إلا إن كانت لتوقف الأوطان عن حركتها في مسار الحضارة.