جمال الكندي
أمريكا دولة فاعلة ووازنة ومؤثرة في الإقليم والعالم، وسياستها الخارجية وإن كانت معلومة الاستراتيجية في العلاقات الخارجية، والتي من أهمها أمن إسرائيل، ولكنها مُهمة ويبنى عليها من ناحية التصعيد أو المهادنة والتعامل معها يقع بين الاشتباك في مواضع والتشابك معها في مواضع أخرى؛ لذلك فالشخصية التي تترأس الهرم السياسي في أمريكا مُهمة ويسلط عليها مجهر التحليل السياسي والأيدلوجي.
من هنا يختلف التعامل مع الحزب الجمهوري والديمقراطي، فاستراتيجيتهم واحدة ولكن الاختلاف يكمن في التكتيك والأسلوب والغاية تبقى واحدة. هذا التكتيك هو الذي يخلق بيئة الحوار مع الخصوم، ويعطي أريحية مع حلفائها الأوروبيين الذين يهمهم عدم التصعيد في المنطقة.
الاتفاق النووي مع إيران، وإنهاء حرب اليمن، والتوافق الاقتصادي والسياسي مع خصوم أمريكا التقليديين عناوين رئيسية لدى رئيس البيت الأبيض الجديد جو بايدن، ومقارباته السياسية ستختلف عن سلفه. الإدارة الأمريكية الجديدة بأركانها البارزين من وزير الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات يتبين أنها أقل حدة وأكثر دبلوماسية من الإدارة السابقة، وهذا الاختلاف سوف يظهر في التعاطي مع ملفات المنطقة التي ما زالت مفتوحة ولم تستطع إدارة الرئيس السابق "ترامب" تحقيق نتائج ملموسة لأنها استخدمت نظرية العصا والجزرة بشقها الأول فقط فاستبعدت الجزرة وقدمت العصا، وعصاها كانت الحصار الاقتصادي في اليمن، وإيران، وقانون قيصر في سوريا.
إنَّ اختلاف سياسة أمريكا الخارجية المقبلة كتكتيك وليس كاستراتيجية نابع من شخصية الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن الذي يعتبر زعيم الدبلوماسية الأمريكية، فقد عاصر وخبر أهم قضايا المنطقة والعالم، حيث شغل منصب رئيس السياسات الخارجية في الكونجرس الأمريكي لفترة طويلة قبل تسلمه منصب نائب الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، بعكس سلفه دونالد ترامب الذي عالج القضايا الخارجية بمنطق التاجر المساوم.
احتواء الخصوم هي استراتيجية بايدن الجديدة التي بدأت تظهر في خطابه السياسي، وقد صنفت بأنها "سياسة الصندوق" وهي حصر الخصوم واحتواؤهم بتجديد المعاهدات معهم، وليس كما قام سلفه بنقض المعاهدات. هذا بدوره يخفف التوتر مع الخصوم، وهو ما رأيناه في نية الرئيس جو بايدن في تمديد معاهدة (نيو ستارت) بين أمريكا وروسيا للحد من سباق التسلح النووي عبر الصواريخ العابرة للقارات، وقد رحبت روسيا بنية واشنطن تجديد هذه المُعاهدة التي كان يرفض تجديدها الرئيس ترامب في حالة فوزه بالولاية الثانية، الأمر الذي كان سيرجع حالة التوتر بين البلدين ويُعيد سياسة سباق التسلح التي يعلم الطرف الأمريكي أن الطرف الروسي متفوق فيها في الوقت الراهن، فمن الأفضل تجنب هذا السباق ومراقبة مدى جدية روسيا في تنفيذ المعاهدة عوضاً عن الخروج منها.
سياسة أمريكا تجاه إيران كذلك تختلف عن الإدارة القديمة؛ فالرئيس الحالي هو مهندس الاتفاق النووي مع إيران الذي خرجت منه أمريكا ترامب من أجل الحليف الإسرائيلي والسعودي، وهنا كانت بداية الاختلاف في هذا الملف، فالرئيس "جو بايدن " يريد تطبيق نظرية الصندوق في احتواء إيران بالرجوع إلى الاتفاق النووي معها، ولكن بمُعطيات جديدة ظهرت في الساحة السياسية والعسكرية، والسؤال المطروح هل تقبل إيران ذلك؟!
بايدن برغبته الرجوع إلى الاتفاق النووي يعمل على سياسة الصندوق التي ذكرناها، فالأفضل مراقبة إيران بهذا الاتفاق، وضمان عدم امتلاكها قدرات تمكنها من تصنيع القنبلة النووية، فأمريكا تعلم أن الاتفاق سيئ عند بعض حلفائها، ولكن الأسوأ منه هو الخروج من الاتفاق، وأمريكا لا تملك القدرة على شن حرب شاملة على إيران، لمعرفة هذه الإدارة والتي قبلها ما عند إيران من قدرات عسكرية فاعلة ستُؤثر على المشهد السياسي والعسكري للمنطقة برمتها، لذلك نرى هذا الغزل المتبادل الأمريكي الإيراني بخصوص شروط الرجوع إلى الاتفاق.
في اليمن ظهرت تباينات الرئيس بايدن عن سلفه ترامب بتجميد قرار وضع جماعة "أنصار الله" في القائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب، والقرار في حالة تطبيقه كان سيؤثر في تعامل الأمم المتحدة مع الشمال اليمني من ناحية المساعدات الإنسانية، وفي إيجاد مخرج سياسي للأزمة اليمنية، فبدون إشراك "أنصار الله" في الحل السياسي اليمني فلا حل سياسي في المدى القريب لهذه الأزمة، وهذا ما تدركه الإدارة الأمريكية الجديدة بعد سبع سنوات حرب.
لذلك جُمدت صفقات الأسلحة مع الحليف السعودي، وأعطت الضوء الأخضر لاتخاذ خطوات ملموسة على الأرض لإنهاء هذه الحرب التي كانت بأمر أمريكي وسوف تنتهي بأمر أمريكي أيضا، وهي الكارثة الكبرى لنا نحن العرب.
هذه الحرب أُزهقت فيها أرواح اليمنيين ودمر المدمر، واستنزفت فيها أموال من يقصفون اليمن، والنتيجة بعد كل هذه السنوات ما تسمى بـ"الشرعية" ما زالت في فنادق الرياض ولا تتجرأ على العمل في المناطق اليمنية، التي يقال عنها "محررة"؛ لأنَّ الأمن معدوم فيها، على عكس الشمال المسيطر من قبل الجيش واللجان الشعبية وحكومة الإنقاذ اليمنية.
أما في الملف الفلسطيني، فسياسة بايدن تظهر أنه يريد أن يبقي شعرة معاوية بين الفلسطينيين والإدارة الأمريكية الحالية. هذه الشعرة قطعها ترامب بقرارته التي أعطت كل ما يُريده الطرف الإسرائيلي، فسمح له بضم أجزاء من الضفة الغربية وغور الأردن وقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية، وإغلاق مكتبها في أمريكا، والأهم من ذلك الموافقة على "صفقة القرن" التي تجرد الفلسطينيين مما تبقى لهم من حقوق مسلوبة من قبل الصهاينة وتهدم مشروع حل الدولتين على أساس حدود 1967.
سياسة بايدن بالنسبة للقضية الفلسطينية هي في إرجاعها للمربع الأول، مربع التفاوض، وهي شعرة معاوية التي تبقي السلطة الفلسطينية في الدائرة الأمريكية وتبعدها عن عدو إسرائيل الأول في فلسطين "حماس" وقوى المقاومة الأخرى الإسلامية والقومية، فقد تسببت قرارات ترامب في الشأن الفلسطيني إلى تقارب بين السلطة في الضفة الغربية والسلطة في غزة ومن يتوافق معها، وهذا الأمر لا تريده أمريكا فهو يؤسس لعلاقة جديدة بينهما أساسها استرجاع الأرض لو بقوة السلاح، وليس بالمفاوضات فقط.
ما قام به بايدن هو من أجل تأجيل أو إضعاف تفاهم حماس مع السلطة الفلسطينية، وإن كانت بوادر المصالحة باتت واضحة ومخرجاتها ستظهر بإقامة الانتخابات البرلمانية والرئاسية بمشاركة السلطة في غزة، ولكن يبقى السؤال: ماذا لو تكررت نتائج 2006 وفازت حماس بأغلبية المقاعد البرلمانية كيف ستتعامل معها أمريكا وإسرائيل وهي مازالت ترفع شعار مقاومة إسرائيل بقوة السلاح؟ هذا ما ستحاول إدارة بايدن فكفكته عن طريق هذه الشعرة التي تبقيها متواصلة مع السلطة الفلسطينية.
وفي الملف السوري، تبقى تعقيدات الشمال السوري العنوان البارز لدى الإدارة الأمريكية الجديدة، فغرب الفرات يوجد الحليف التركي الذي اقترب قليلاً مع النظرة الروسية الإيرانية في سوريا بسبب مصالح اقتصادية وعسكرية مشتركة بينهما، ترجم ذلك في صراع البلقان الأخير بين أرمينيا وأذربيجان، والصراع الليبي. إنها ملفات متداخلة يتم التنازل هنا مقابل تنازل في إحدى تلك الملفات، والسبب الآخر أن أمريكا تقف مع الكردي في شرق الفرات، فالكردي والتركي حلفاء أمريكا في سوريا وهم مختلفان ومتصارعان، فكانت الإدارة السابقة تراعي ذلك وتقترب منهما حسب مصالحها في المنطقة.
الطرف التركي يعلم أنَّ سياسة بايدن مختلفة عن سياسة ترامب من حيث قربها أكثر من المكون الكردي، وهذا ما يقلق تركيا ويحاول التموضع في الخانة الروسية على حساب الرؤية الأمريكية الجديدة في سوريا التي ورقتها الرابحة هي الكردي، بدعم أكثر لقوات "سوريا الديمقراطية" وهو الذي لا تقبل به الحكومة السورية، وربما يُؤسس إلى تعاون "روسي- إيراني- تركي" أكثر وفق "رؤية أستانة" التي من أهم بنودها وحدة الأراضي السورية.
وفي الأخير، فإن احتواء الخصوم والاختلاف مع الحلفاء في الملف اليمني والإيراني والفلسطيني والسوري، هل باتت السياسة الخارجية الجديدة لأمريكا ما بعد ترامب؟
ما علينا سوى الانتظار ومراقبة تحقيق ذلك على الأرض.