مدرين المكتومية
إننا وبمرور السنوات نتغير ونتغير كثيراً وتدريجياً، وذلك ليس بفعل البحث عن التغيير بقدر ماهو في الأساس حقيقة واقعة، لأن كل مراحل حياتنا التي نصعد فيها سلم العمر تدفعنا دائماً لأن نختلف، سنة عن أخرى ومرحلة عن مرحلة تسبقها، وكل ذلك لنكون على ما نحن عليه حتى هذه اللحظة التي يقرأ فيها بعضكم هذا المقال.
وحصاد تلك السنين، تجارب كثيرة ومواقف لا تحصى ولا تعد، بعضها كنا فيها أبطال قاومنا خلالها كل مصاعب الحياة وتقلباتها والبعض الآخر أخذ ينهش من سعادتنا الكثير حتى شعرنا للحظة بأنها النهاية، ولكننا في لحظة نكتشف فيها أننا لازلنا نمتلك تلك الطاقة السحرية في الاستمرار فنجد أنفسنا لا شعوريا نقاوم، وننهض، ونتجاوز، ونبدأ من جديد، وربما نكمل ما تبقى من الطريق الذي تعثرنا فيه، دون أن ندرك كيف، وأين، ولماذا...؟
إن تلك القوة التي يكتسبها الشخص مرة بعد مرة ماهي إلا حصاد لناتج تجارب كثيرة، ساعدت في زيادة المعرفة والخبرة لديه وبالتالي هذا ما يوصلنا إلى ما يمكن اصطلاحه بمرحلة "النضج"؛ وهي المرحلة التي لا ترتبط ارتباطاً تاماً بالسن وإنما ببلوغ القمة، القمة المرتبطة بقدرات الشخص وتطوره الذاتي، وبالطبع فإنَّ النضج الذي اتحدث عنه مرتبط بالنضج الفكري أولاً حيث إن هناك أنواعا كثيرة من النضج منها ما يرتبط بالنضج الجسدي والآخر بالنضج العاطفي ولكن في كل الأحوال "الفكر" هو الذي يتحكم في كل تلك الأنواع من مراحل "النضج".
أُشبه مرحلة النضج لدى الأشخاص بالفاكهة الناضجة (أو كما نقول مستوية)؛ فكلما كانت الفاكهة ناضجة كلما كان مذاقها أطيب وألذ، كذلك الحال بالنسبة للأشخاص، فكلما بلغ الشخص مرحلة من النضج الكافي؛ كلما أصبح أكثر انفتاحاً على كل ما حوله، فيصبح أكثر تقبلاً للمُتغيرات، وأعلى مقدرة على كبح ردود أفعاله، وأشد قرباً من نفسه، بحيث يصبح كل أمر بالنسبة له يمكن السيطرة عليه، ويكون كل شيء قابل للتغير والتجديد، وألا طريق مسدودًا أمام ما يُريد؛ كما إن الأمور القطعية له مرفوضة، فدائمًا هناك حل وسط، وعادة الأمور غير محسومة كما كنَّا نظن ونحن صغاراً، وأن الأبيض أبيض، والأسود أسود، لكنه يدرج أن مساحة اللون الرمادي في الحياة هي الأوسع على الإطلاق. وهؤلاء الناضجون أشخاص قادرون على تحليل الوضع والبحث عن حلول، ويتميزون بالرأي الوسطي المعتدل، مقارنة بغيرهم. إنهم يطبقون المثل الإنجليزي القائل "الشيء الذي لن يُؤثر على حياتك خلال الخمس سنوات المُقبلة، لا يستحق منك أكثر من 5 دقائق تفكير".
الشخص "الناضج" شخص استطاع في البدء معرفة ذاته، وبالتالي استطاع تقبل كل ما يدور من حوله، الأمر الذي انعكس أيضاً على قدرته على تقبل الآخر، رغم الاختلافات والتوجهات والرغبات المُغايرة.. إنه شخص يتكيف مع أي ظرف وفي أي وقت، يرى الأمور دائماً بنظرة بعيدة الأمد، لا يطلق أحكاماً متسرعة بل دائماً ما يتمهل ويتريث ويضع في أولوياته الأعذار بدلاً من الإدانات، حتى وإن لم تكن (أي الأعذار) صحيحة؛ فهو يبحث عن سعادته ورضاه الداخلي وصفو حياته قبل أي شيء آخر.. إن الناضج يعيش بمبدأ احترام الذات واحترام خصوصية الآخر دون اقتحامها، لذلك تجده يرحل سريعاً من مكان لا يناسبه، ويبتعد عن الأشخاص الذين لن يضيفوا له شيئاً؛ بل يستبدلهم بالأفضل، رغم أنه قد يتقبلهم كما هم من باب "لكل شخص طريقته في الحياة والتفكير"، لكن دون أن يتعمق معهم في أي تفاصيل.
إننا في نهاية المطاف بحاجة لأن نصل لمرحلة بسيطة من النضج، ذلك النضج الذي يمكننا من خلاله أن نكون أكثر صبرا وتحملا، أكثر تقبلا للآخر وتصرفاته، أكثر اهتماماً بشؤوننا الخاصة، والعمل على إعادة ترتيب الأولويات والأشخاص في حياتنا وفق الأهم والمهم وغير الضروري والعادي، لننعم بحياة رائعة مستفيدين خلالها من كل لحظة ودقيقة في صناعة أنفسنا لاعتلاء القمة، والبقاء عليها أطول فترة ممكنة، لنتحدى بذلك مقولة "الوصول للقمة ليس صعباً.. لكن البقاء عليها هو الأصعب".