أخلاق الفرسان

 

عبدالله الفارسي

كم نحن بحاجة إلى سماع قصص رائعة ومواقف نادرة تُعيد لنا الثقة في أخلاقنا ومبادئنا ووطننا؛ حيث اليأس قد بلغ مبلغه عند الكثيرين، والإحباط وصل ذروته من تفشي سوء الخلق والتنمُّر على الضعفاء والغرور والجبروت على الفقراء.

إلى أولئك الذين يئسوا من الواقع لدرجة فقدان الأمل في وجود الخير، إلى أولئك الذين أحبطوا من شدة الظلام لدرجة عدم إيمانهم بالشروق، إليكم هذه الواقعة الإنسانة البسيطة التي تؤكد أنه مهما كانت السماء حالكة مظلمة فهناك نجوم مشعة وأقمار مضيئة، فحين تصل إلى مسماعك مثل هذه القصص الممتعة ترقص مشاعرك فرحا، وتهتزُّ رُوحك بهجة، وترتفع رقبتك عِزة وشموخا، فتشكر الله وتُثني عليه وتقول إنَّ البلد ما زال بخير، وأنه لا يوجد بيننا فقط الضباع والثعابين والثعالب، بل معنا وبيننا الغزلان والعنادل والحمائم.

روى لي موظف بسيط هذه الحادثة؛ حيث كان حاضرا ومشاهدا لهذا الموقف الرائع الذي سأرويه لكم، والذي حدث في إحدى شركات الكهرباء العملاقة التي تتقاسم كعكة الكهرباء السمينة فيما بينها، وما أكثر هذه المشاهد وما أكثر القسوة والقساة معنا، وما أقل الرحمة والرحماء بين ظهرانينا.

يقول الراوي: ذات نهار جاءت امرأة فقيرة إلى مقر شركة الكهرباء، دخلت تنتفض كسارية علم مكسورة، دخلت متعثرة متلفلفة بعباءتها مرتبكة في خطواتها؛ فهي لم تعتد دخول هذه الشركات التعيسة، ولم تفكر يوما من الأيام في دخولها، لكن الذي أجبرها على ذلك كان فوق طاقتها، وأصعب من قدرة تحملها، إنهم أطفالها الأربعة الذين يتصببون عرقا في بيتهم الصغير ولولاهم لما جاءت وما تحركت من بيتها حتى تموت، فالحرة تموت ولا تتوسل.

نعم، إنهم يتصببون عرقا منذ يومين؛ حيث جاءت شركة الطوارئ وقطعت عليهم الكهرباء فجأة بأمر من شركة الكهرباء الرئيسية، قطعت عليهم الكهرباء لأن الشركة تطالبهم بـ140 ريالا المبلغ المستحق للشركة، استضافوها جيرانها في يوم القطع الأول هي وأطفالها، ورفضوا تركها تنام في الحر والظلام، لكنها لم تحتمل أن تُضايق جيرانها وتثقل عليهم  يوما آخر، فقررت مراجعة الشركة.

جاءت الفقيرة المسكينة تتبعثر في مقر الشركة تبحث عن مكتب المسؤول عن إعادة الكهرباء، قابضة في يدها 40 ريالا، جمعتها من جاراتها الفقيرات، كل جارة أعطتها 5 ريالات، فالجيران كلهم فقراء و"المَصائِبَ يَجمَعنَ المُصابينا"، والأغنياء لا يعيشون بجانب الفقراء، فالفقراء يسببون لهم الحساسية والجرب، لذلك هربوا وشيدوا قصورهم فوق التلال وفي أعالي الهضاب وعلى أكتاف الشواطئ بعيدا عن أنين الفقراء وأوجاعهم، وبحثا عن الهدوء والهواء العليل، والإطلالات والمنظر الجميل".

أخذت المسكينة تسأل موظفي الشركة عن مكتب سعادة المسؤول عن إعادة الكهرباء لإيقاف عرق أبنائها في منتصف شهر يوليو، فهو موسم نضوج الرطب، وانكسار الظهر وتصبب العرق وانفجار المرارة.

أرشدها أحد الموظفين إلى مكتب سعادة المسؤول، كان في الطابق الثاني، فوصلت إليه منهكة تلتقط أنفاسها، دخلت على المسؤول الذي كان جالسا خلف مكتبه الفاخر تهب عليه نسمات هواء بارد ناعم لذيذ تداعب خدوده ووجنتيه، لا يعرف شيئا عن الحر اللافح الذي في الخارج ولم يجرب العرق في غرفة أسمنتية مقطوعة الكهرباء. كان يلعب بهاتفه الأنيق الثمين ويضاحك شاشته، ربما كان يغازل إحدى عشيقاته، ربما أرسلت له إحداهن في هذه اللحظة نكتة سخيفة سَمِجة تتناسب ومستوى خلقه السخيف وعقله السمج.

دخلت عليه المرأة المسكينة وقطعت عليه ضحكته: السلام عليكم يا ولدي.. وعليكم السلام تفضلي.. قطعوا علينا الكهرباء البارحة، وزوجي يعمل في الإمارات وبعد غدٍ سيصل بإذن الله وسيسدد كل المستحقات، كم المبلغ الذي عليكم؟ قالت: 140 ريالا، وأحضرت معي 40 ريالا الآن وبعد غد سيسدد زوجي كامل المبلغ، أرجوك ساعدني يا ولدي.

قال لها: لا لا لا لا.. لا يمكن لازم تدفعي نصف المبلغ على الأقل، القانون ما يسمح.

قالت له: يعلم الله يا ولدي بأنني لا أملك غير هذا المبلغ.

قال لها بكل وقاحة: روحي دبري حالك من هنا وهناك.

فجأة أرسل الله لها من ينقذها من تفاهة هذا المخلوق عديم الرحمة، ويخلصها من قسوته وبلادته، دخل فجأة أحد موظفيه فسمع الجمله الأخيرة التي نطق بها مسؤوله، فصرخ فيه مباشرة دون أن يفكر في أن الجالس أمامه هو مسؤوله المباشر: ماذا تقصد دبري حالك من هنا وهناك؟ لماذا لا تفتح محفظتك السمينة وتكمل لها المبلغ؟ ألا تستحي من نفسك، امرأة فقيرة تقف أمامك وتتوسل إليك وتعطيك ثلث مبلغ الفاتورة، وتقول لها، لا، أي رجل أنت؟

فالتفت إلى المرأة والتي كانت مُنكمشة على نفسها في ركن المكتب كأنها خيمة قديمة، قائلا لها: اذهبي يا اختي إلى بيتك الآن وخلال نصف ساعة ستكون الكهرباء معك، ولا تدفعي ريالا واحدا حتى يصل زوجك بالسلامة.

هنا اهتزَّ مسؤول الشركة الكبير الذي خُدشت كرامته وانتفض ونفخ ريشه وقفز من كرسيه المخملي المتحرك، وأرغى وأزبد فوق رأس موظف بسيط من موظفيه، فقال له الموظف بكل ثبات وإصرار: "قسما بالله ستدخل الكهرباء بيت هذه المرأة الآن، وعلى جثتي رغم أنفك، وافعل بعدها ما تشاء".

وفعلا، خلال نصف ساعة عادت الكهرباء لبيت تلك المرأة الفقيرة واشتغل مكيفها وثلاجتها وبرُد ماؤها، وفرح أطفالها.

ودفع هذا الرجل الشريف ثمنا باهظا مقابل وقوفه في وجه رئيسه ومسؤوله المباشر، فقد تم نقله في اليوم التالي إلى فرع الشركة في ولاية أخرى جزاء نخوته وثمن رحمته وشهامته.

تخيَّلوا لو لم يكن معنا مثل هذا النوع من الرجال، ماذا سيحدث معنا لو لم يكن بيننا مثل هذا الصنف الأصيل من البشر؟ أي كارثة ستحل بنا؟ أي لعنة سماوية ستصيبنا؟

هذا الرجل الشهم والذي وقف في وجه مسؤول عديم الرحمة بليد المشاعر لا يملك أخلاق الفرسان.. أخلاق الفارس الشهم الذي ينزل من فرسه ليركب عليه من هو أضعف وأحوج للحمل والركوب. أخلاق الفارس الذي يذبح فرسه الأثير لضيوفه حين لا يملك شيئا يقدمه لهم، فيضحي بأعز ما يملك.. أخلاق الفارس الذي يؤثر الآخرين على نفسه ويعرض نفسه للخطر لأن أخلاقه تفرض عليه التضحية بنفسه.. أخلاق الفارس الذي إذا رأى سلوكا قبيحا منكرا أمامه حاول تغييره بيده أو بلسانه.

في خضم الظروف الحالية، وفي أجيج هذا الواقع القاسي، واقع البطالة والفقر والتسريح من العمل وغطرسة الشركات وتجُّبرها، ما أحوجنا إلى أخلاق الشهامة والنخوة والمروءة. ما أحوجنا اليوم إلى أخلاق الفرسان في ظل انتشار وتفشي أخلاق الصبيان؟