إصلاح القطاع المصرفي والنقدي

 

يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

يشهد الوطن حراكاً إيجابياً في إعادة تنظيم وتهيئة عوامل الإنتاج الأربعة تمهيدًا لتحقيق النقلة النوعية الضرورية للنموذج التنموي، ويتضح ذلك جلياً في الجهود المبذولة في إعادة تنظيم سوق العمل، وكذلك منظومة الإدارة الخاصة بتشجيع الاستثمار بشقيه المحلي والأجنبي من خلال تسهيل الإجراءات وتجهيز الخارطة الاستثمارية المحلية.

غير أنَّ ثمَّة اتفاق على أن العملية التنموية لا تستقيم بدون عامل وعنصر في غاية الأهمية ألا هو رأس المال الذي يقوم القطاع المصرفي بدور فاعل في توفير أدواته من خلال حشد المدخرات المحلية وتوفير التمويل بالشروط والتكلفة المناسبة فالمتغيرات والتحديات تفرض إيقاعاً مختلفاً وتتطلب مقاربة وأدوارا تنموية جديدة تستهدف توسيع القاعدة الإنتاجية.

فعلى المستوى الشخصي كغيري من القريبين من الملفات الاقتصادية والمالية نتعرض إلى تساؤلات محرجة من قبل مؤسسات التصنيف الائتماني والتنافسية والشركات العالمية التي ترغب في الاستثمار في السلطنة حول محدودية القدرات المالية والأدوات المتوفرة في القطاع المصرفي العُماني. لماذا جميع البنوك ومؤسسات التمويل لا توازي بنكا خليجياً واحداً وانتشارها العالمي محدود وكثيرا ما تحتاج لمعرف خارجي في التعاملات الدولية وتعتمد على القروض الشخصية والاستهلاكية وعملاؤها موظفو الحكومة وشركاتها؟ في حين لا يصل الائتمان الممنوح للشركات الصغيرة والمتوسطة- العمود الفقري للمرحلة القادمة إلى 3%! ولماذا تكلفة التمويل عالية جداً ولا تتم إلا برهونات كرواتب وعقارات لا تملكها شركات القطاع الخاص وهناك شبه تغييب لأدوات السياسة النقدية لتوجيه الادخار للأغراض الإنتاجية؟

تشير الإحصاءات الدولية فيما يتعلق بالحصول على الائتمان إلى تراجع كبير في مرتبة السلطنة ففي مؤشر ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2020 الصادر عن البنك الدولي فإن ترتيب السلطنة 144 من بين 199 دولة. وفي مؤشر التنافسية العالمي لعام 2019م، حصلت السلطنة على 45 من بين 141 دولة في مؤشر الائتمان المحلي للقطاع الخاص كنسبة إلى الناتج المحلي، فيما حصلت على المرتبة 139 من بين 144 دولة في مؤشر فجوة الائتمان والذي يقيس الفرق ما بين الائتمان المحلي للقطاع الخاص ومساره طويل المدى. وفي مؤشر الابتكار العالمي 2020م، فقد حصلت السلطنة في الائتمان المصرفي على ترتيب 99 من بين 131 دولة، وفي سهولة الحصول على الائتمان حصلت على ترتيب 118 من بين 131 دولة. ولا شك أن هذه المؤشرات تعني الكثير لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر وتنافسية الجدارة الائتمانية للسلطنة. وفي سياق متصل، فلا تزال الثقافة المالية لدى أفراد وأسر المجتمع وكذلك شركات القطاع الخاص متدنية للغاية. وهناك ضرورة تشجيع نسبة الادخار في الأسر العمانية والتي لا تتجاوز في منطقة الخليج بشكل عام 2.5% من الدخل المتاح وهي نسبة أقل من المعدل العالمي البالغ 10% كحد أدني لضمان الاستقلالية المالية على المدى الطويل.

وبعيداً عن الإجحاف في حق القطاع وإنجازاته فلا يخفى أن القطاع المصرفي بمختلف مكوناته كان من بين أكثر القطاعات نجاحاً والكل يتلمس التقدم الملموس في مختلف جوانب هذا القطاع ودوره في المحافظة على الاستقرار النقدي وتحقيق نسب تعمين عالية والعمل على أفضل الممارسات ومعايير النقدية العالمية في المنظمات العالمية. إلا أن التغيير سنة كونية وإن المرحلة تتطلب تغييرات جوهرية وإصلاحا جوهريا في أساليب العمل والأدوار التي يقوم بها هذا القطاع فالنمو الاقتصادي الذي حققته السلطنة المبني على الاستهلاك ينبغي أن يتغير إلى نمو مبني على الاستثمار والإنتاج والتصنيع والتصدير وهذا يتطلب تحولا نوعيا في آليات التعاطي مع تقديم الائتمان إلى القطاعات الإنتاجية بدل الاستهلاكية وتغييرا في أنماط وأساليب عمل القائمين على البنك المركزي والبنوك التجارية وتغيير بوصلتهم في اتجاه الاستحقاقات الجديدة. فالنتائج المختلفة تحتاج إلى ممارسات مختلفة والعمل بثقافة الممول للإنتاج وفق دراسات جدوى رصينة وليس المقرض للاستهلاك وفق ضمان الراتب والمباني. ولا شك أنَّ تعزيز العاملين بقطاع البنوك التجارية وشركات التمويل بمهارات التحليل والمعرفة المناسبة بالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية وتأثير الممارسات الحالية مثل التوسع في القروض الشخصية والاستهلاكية وأثر ذلك في المدى المتوسط والطويل وماذا يعني إعسار وانكشاف عدد من الشركات على متانة الجهاز المصرفي ومن المهم تعزيز قدرتهم على الأخذ بأيدي الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة ومساعدتها بالدفع بها في مجالات التوسع الاقتصادي وأخذ مخاطرة محسوبة.

في ظل المتغيرات والاستحقاقات المختلفة للمرحلة القادمة، وتزايد عدد الشركات التي تتعرض إلى نقص حاد في السيوله والإعسار والانكشاف فإنَّ الاستمرار  في النهج الحالي سيُؤدي إلى تعميق المشاكل المالية لدى مجتمع الشركات ولدى البنوك والمؤسسات المالية ذاتها. ولذلك هناك أدوار جديدة لمؤسسات القطاع المصرفي العماني متمثلة في البنك المركزي العماني، البنوك التجارية وشركات التمويل والتأجير، وسوق رأس المال وبورصة مسقط وبنك الإسكان العماني، وشركات التأمين وصناديق التقاعد وغيرها من مؤسسات مصرفية. والتي يبقى بدونها أحد عناصر الإنتاج الأربعة لا يعمل وفق متطلبات المرحلة وتحقيق النقلة النوعية المنشودة.

ولتحقيق نقلة نوعية وتعزيز قدرة القطاع المصرفي على الصمود واستيعابه للمتغيرات ومتطلبات المرحلة القادمة، نود التطرق إلى بعض المقترحات ليس بغرض النقد، ولكن بغرض التنبيه إلى أن التحديات لن تعالج نفسها ويتطلب الأمر التعامل معها بتدخلات مدروسة بالسياسات المناسبة. فهناك الكثير الذي يمكن عمله لنهوض بالقطاع المصرفي ليمارس دورة في تحقيق رؤية "عمان 2040" وتمويل الفجوة الاستثمارية المحلية لتحريك مختلف قاطرات النمو.

  • لا بُد من خلق كيانات مالية كبيرة والدفع بملفات الاندماج والاستحواذ بين مؤسسات القطاع المصرفي والسعي الحثيث لاجتذاب بنوك وشركات تمويل واستثمار عالمية وفق منهجية علميه وذلك لتوفير التمويل المطلوب بالتكلفة والشروط والأدوات المناسبة وكذلك رفد السلطنة بقوائمها من المستثمرين الأجانب والشركات تملك أدوات ابتكارية جديدة لتحقيق التحول المنشود وعدم الاستسلام إلى مبررات صغر حجم السوق وعدم رغبة الأطراف الخارجية.
  • يجب أن يلعب القائمون على هذا القطاع دورًا أكبر في تحقيق الشمول المالي من خلال نشر الثقافة المالية المناسبة لدى الأفراد والشركات وتداعيات قراراتهم المالية في الأجل المتوسط والطويل، وتبني قيم الادخار والترشيد من خلال تطوير برامج وأدوات ومناهج في هذا الشأن. وبذل جهود أكبر في التوعية والتواصل مع أفراد المجتمع ومؤسسات الأعمال في القطاع الخاص لتغيير بعض أنماط الاستهلاك وتغييـر السـلوك الاجتماعـي وتبيان الأدوار المطلوبة من الجميع في المستقبل بما يضمن تحقيق مستقبل أفضل للجميع.
  • هناك حاجة لغرس فكر جديد لدى العاملين في القطاع المصرفي في أنهم صناع الاقتصاد والتنمية والمستقبل وأنهم ليسوا مقرضين فقط وهذا الأمر يتطلب أدوارا أوسع وفهما أعمق للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية ورعاية العملاء بشكل مختلف والفهم العميق بدراسات الجدوى وامتلاك قدرات تحليلية ومعرفة بالقطاعات الاقتصادية والأنشطة الممولة ولذلك ما نتمناه أن نرى من ضمن كوادر البنوك مهندسين متخصصين في الأمور الميكانيكية والهندسية والكهربائية والصناعية ليتمكنوا من الفهم المتخصص للمشاريع المطروحة.
  • ثمة حاجة لتغيير معايير منح القروض والتسهيلات الائتمانية من معيار الرهونات المتوفرة من الأراضي والمباني إلى مدى نجاعة دراسات الجدوى المرفقة بطلب التمويل. فليس جميع رجال الأعمال يمتلكون قدرة على توفير أراضٍ ومبانٍ أو رواتب حكومية كرهونات وخاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة وغير العمانيين من رجال الأعمال. ومن جانب آخر- وكما يعلم الكثيرون- أن تمويل مشاريع صناعية واستثمارية لا يقتصر على التكلفة المبدئية والإنشائية وإنما هناك تكلفة تشغيلية وحاجة إلى شراء مدخلات إنتاج وغير ذلك الأمر الذي يعني الحاجة إلى أدوات مالية مختلفة كخصم الفواتير وتسهيلات السحب المكشوف وخطوط الائتمان وغير ذلك، والتي تمارس حالياً على نطاق محدود وباشتراطات كبيرة وبتكلفة عالية.
  • هناك حاجة لتغيير الصورة النمطية السائدة بأن عمان بيروقراطية وعدد السكان بسيط وحجم الاقتصاد صغير وأن أدوات السياسة النقدية معطلة والدفع في توجهات صناعة المستقبل وابتكار الحلول وبلورة قناعات بأن تشجيع توجه ريادة الأعمال، وزيادة تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة وإقامة مشروعات إنتاجية وخدمية، وتنمية الصادرات غير النفطية لا يتعـارض مـع تحقيق الأرباح والحفـاظ علـى اسـتقرار ومتانـة القطـاع المصرفي والمالـي.
  • هناك أهمية كبيرة لتعجيل مسار التحول الإلكتروني في هذا القطاع وتشجيع استخدام المعاملات الإلكترونية وكذلك تقنية البلوك تشين وتداول العملات الرقمية لما لها من مميزات كبيرة في المرحلة القادمة مع ضرورة أن يرافق ذلك جود نظام حوكمة فاعل بأحدث الأساليب المتبعة لضمان تحقيق الأهداف التنموية وتجنب أية آثار سلبية على المتعاملين. وهناك حاجة لإيجاد منصة للتمويل الجماعي وتفعيل مركز المعلومات الائتمانية. وتطوير قطاع الإقراض المتناهي الصغير بغرض تنشيط الاقتصاد والمساهمة في التصدي لمشكلة الباحثين عن عمل وتشجيع قيام صناعات صغيرة في المحافظات ومساعدة أسر الضمان الاجتماعي لتكون أسر منتجة. وتشجيع وتحفيز ثقافة ريادة الأعمال والتسهيل على الشركات المبتدئة، الأمر الذي تغفله البنوك في الوقت الراهن.  وللقطاع المصرفي دور هام في مجال توفير الأموال اللازمة لأغراض التعليم والتدريب من خلال منح قروض بتكلفة معتدلة.
  • هناك حاجة لاستعادة قوة الجدارة الائتمانية للسلطنة والتي تعتبر عاملا مهما وعنصرا أصيلا لنجاح العملية التنموية وترتبط تكلفة الحصول على أموال من الخارج سواء للحكومة أو القطاع الخاص بما فيها البنوك على التصنيف الائتماني ويلعب دورا محورياً في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر وتسويق الفرص الاستثمارية وبيئة الأعمال وهو من وجهة نظري أحد أبرز ممكنات نجاح الرؤية عُمان 2040. وتتأثر الجدارة الائتمانية بمدى متانة القطاع المصرفي وقدرة مؤسساته على الصمود والتعامل مع الأزمات المالية والاقتصادية.
  • وانطلاقاً من أن قوة البنوك ومؤسسات التمويل من قوة عملائها من الشركات. فيجب حشد طاقات البنوك لتقديم حوافز إنقاذ وقروض طويلة الأجل، بأسعار فائدة متدنية ومن المهم أن تذهب هذه القروض لمعالجة مشاكل السيولة النقدية للشركات القابلة للاستمرار وليس المقصود ضخ أموال في شركات متعثرة أساسا قبل أزمة كورونا.  وتتحمل البنوك وشركات التمويل مسؤولية توفير تلك الأموال في حين تساهم الحكومة بتحمل كلفة الفوائد على تلك القروض، والتي يجب أن تكون منخفضة، وحوكمة المعايير والإجراءات المنظمة لها.

وختاماً.. لا يخفى أن مكنات طباعة النقد والعملة الأجنبية في الولايات المتحدة والدول الأوروبية تصدح والتمويل الرخيص متوفر في ظل استحقاقات الاقتصاد العالمي الجديد ورؤوس الأموال تبحث عن ملاذ آمن لتستقر بعد تعطل كبير بسبب جائحة كورونا وارتفاع درجة الضبابية وعدم اليقين. وتبقى علينا القراءة المختلفة للواقع الجديد والتجديد والابتكار في تهيئة الظروف لاجتذابه لتغطية الفجوة الاستثمارية الكبيرة في السلطنة، فالسير على نفس المنوال (Business as usual) لم يعد خياراً.