الطاووس

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

احترمُ الصِفر كثيراً.. له قدرةٌ عجيبة على تحديد مكانة الأشياء؛ بما يتناسب معها، بغض النظر عن حجم الرقم الموجود.. هل هو أربعهُ أو أربعةُ ملايين.

والبشرُ كذلك، تكثُر وتعشعش في أرواحهم وأدمغتهم الكثير من الأصفار، لعلَّ أبرزها الاسم. هل تستنكر أن يُرافق اسمك صفراً؟

لا يهم.. الأهم أين يُوضع الصفر بجوار اسمك؟ هل يمينا أم يسارا؟ ولكن انتبه، عليك أنْ تَحْذَر ألَّا يختفي ويُذوى دون أن تشعر بذلك.

"حالوت الخاندرو بوتين انتبهي.. يصدح صوت الجلاد عاليا، عفواً أقصد المحاضر".

إنها جُملته الشهيرة، والتي تشبهُ شبكة صيَّادٍ مُثابر يُلقيها في لُجَّة أفكاري فأستيقظ حائرةً وجِلة، كما أنها كفيلةٌ باستدارة خمسين رأساً من أصل سبعين مُصوِّبين نظراتهم الحانقة المشتعلة والمكبوتة نحوي. لم تُرضهم نصف ابتسامة هاربة تتراقص على شفاهي رُعباً من تكرار محاكمة الساحرات في القرون الوسطى، إنه عفريت تيتوبا (1) يتلبَّسني مرة أخرى، ولا محال سيتم سحبي عُنوة إلى المحرقة بعد انتهاء المحاضرة.. لقد أدركُ جميع الطلاب السبعين أننا قيد الحبس الإجباري لنصف ساعة أخرى.

أين المفر؟ ألا يوجد ترياق سحري يُحوِّلني إلى فأر أو ضفدع أقفزُ عالياً وأختبئ من شعلة الغضب المتقّدة. يجب عليَّ التفكير بمخرج للهرب.. أحتاج مظلةً لأقفز منها إلى برِّ الأمان، كم تمنيت وقتها لو كُنت مِظليَّة محترفة.

في اليوم التالي، ترنَّم صوت المحاضر طروباً، وبنبرة تخالجها الصَّبابة على نغمات أغنية كوكب الشرق "إنت عمري".

"زمردة فانوس علاء الدين"

عجيب.. تبخر اسمي وأمطرت سماء المحاضر باسم آخر، لحظة.. أين الوجوه الحانقة؟ وأين الغضب المكبوت؟ وأين السوط؟ وأين الجلاد؟ وأين المشانق؟ وأين صائدو الساحرات؟

لم يتراقص الجميع على غيمةٍ قطنيةٍ بيضاء ناعمة؟ لما يبتسم الجميع ببلاهة العاشق المتيَّم؟

هل حدث ضغط خارق في الغلاف الجوي وفجر كل محيطات العالم وتبخَّرت لتسقط بعد ذلك أمطاراً عذبة تُسقي الحجر والشجر وتزهر على إثرها الصحاري والفيافي القفار.

لقد كانتْ ابنة رجلٌ مُهم...مُهمٍ جداً، تحتاج إلى أن تسحب خلفها عشرات من حقائب السفر لتتسع لتاريخ وأمجاد عائلتها.

إنَّ عددَ الأصفار التي تُزيِّن يمين اسمها كثيرةٌ جدًّا، بينما الأصفار يسار اسمي أكثر عدداً من الأجرام السماوية.

أعشق هذه الأصفار يسار اسمي هي عظيمة، وللأسف لم أدرك عظمتها إلا متأخراً.

أنا الشيخ فلان ابن فلان ما تعرفين جدي.. ابتسمت بهدوء، إنها فضيلة اكتسبتها من سنوات العمل والاحتكاك بأمزجة مختلفة من البشر.

نعم.. نعم.. والنعم، أكيد معروف، فخامة الاسم تكفي، وقد كنت صادقةً وكاذبةً معا.

فخامة الاسم تكفي.. الأصفار التي تساقطت واصطفت كحبات لؤلؤٍ حرٍ وعقيق يماني يمين اسمك عبر الزمن، أَضَفْت لاسمك إشراقة براقة لامعة، تسلُب اللُبّ، وما هي إلا انعكاس لجواهر صنعت بيد غيرك، نصيبك منها فخامة الاسم فقط، ولا تزال في جوهرك صفراً.

عليك الآن أن تكتب على صحيفة بيضاء ناصعة اسمَك مُجرداً ونقطة على السطر.

لا يهم ما قبلها وما بعدها ولا ما فوقها وما تحتها، ضع صِفرك لأنك صَنعته وخلقته وشكَّلته كما تشتهي وينبغي لك.

لا تسطُ على أصفار الآخرين، وتنسبُها لنفسك؛ لأنها تاريخُهم المكتسب نحتوا الصخر لصنعه، إن خُيلاء الطاووس وتبخترَه بريشِه الملون البهي لا يجعلُ منك طاووساً.

أيها الصِّفر.... أرفَعُ قبعتي لك تقديراً، أنت فارغٌ ومجوفٌ وتجعل لمن ليس له قيمة... قيمة.

---------------------------

  1. تيتوبا: كانت تيتوبا خادمةً في بيت القسيس صاموئيل باريس، اتُّهمت لاحقا بالسحر والشعوذة، وتمت مُحاكمتها مع آخرين، في محاكمة شهيرة تُعرف بمحاكمة "قرية سالم" (Salem Trials) في الولايات المتحدة الأمريكية سنه 1692م.