"هابتنه الكوس"

عبدالله الفارسي

لديَّ صديق فقير وجميل من نيابة رأس الحد الهادئة الجميلة، من أولئك الذين يقول عنهم البدو حين يعتزون بأخلاقهم: "هابتنهم كوس حدرا" بمعنى أنَّهم (كهبوب الكوس النَّدية) نفوسهم سخاء وقلوبهم رخاء وأرواحهم نقاء.

وعموماً الغالبية العظمى من قاطني الساحل الشرقي من عُمان "هابتنهم كوس حدرا"، أولئك المكافحين الذين يستخرجون لقمة عيشهم بأصابعهم من بين أسنان البحر، فهم على الرغم من بساطتهم وشظف عيشهم كرماء غاية الكرم، تكسو سلوكهم النخوة وتجلل أفعالهم الشَّهامة.

شاب في الثالثة والثلاثين من العُمر فقير جدًا، بل يكاد يكون معدمًا، تعرَّفت عليه صدفة ذات نهار، فلفتت نظري رجولته وملأت عيني شهامته ونخوته. فأخذت رقم هاتفه، وتبادلت معه الرسائل والنكات، والضحكات، والمكالمات.

زرته مرة في بيته، فلم أجد معه بيتاً، كان فقيرًا معدمًا يسكن في بيت أهل زوجته يتكدَّس هو وأطفاله الخمسة في غرفة صغيرة واحدة، لا يعرف سوى البحر، ويحاول جاهداً أن يوثق علاقته بالبحر فهو مصدر رزقه الوحيد رغم يقينه التام بسرعة غدره وخيانته، ولكن لا منفذ له من البحر بعد أن يئس تماماً من الحصول على أي وظيفة في أي شركة سمينة أو مؤسسة هزيلة.

يذهب صديقي إلى البحر ليصطاد ولكن البحر لم يعد كريماً مع هولاء الفقراء كسابق عهده، البحر أصبح كريماً جداً مع أصحاب الملايين وأصحاب الجرافات البحرية ومصانع الأسماك الضخمة وأصحاب أساطيل شاحنات تصدير الأسماك العابرة للقارات، البحر يتعامل مع الصياد الفقير كما تتعامل معه الدولة، بالكاد يُعطيه لقمة يسد بها رمقه ورمق أطفاله وأحياناً كثيرة يحرمه منها ويجعله يتلوى ويتشقلب من الجوع.

حين ذهبت لزيارته أوَّل مرة لم أكن أعلم بأنَّه لا يملك بيتا، لأنني حتى اللحظة لا أتصور أنَّ هناك شابًا عُمانيا عمره فوق الثلاثين عاماً وليس لديه بيت يأويه هو وأطفاله.

قال لي: تقدمت بطلب مساعدة إسكانية منذ 6 سنوات، ولا جواب حتى اللحظة.

لا أعرف لماذا تعذب وزارة الإسكان هؤلاء الفقراء الذين ينتظرون سنوات طوال قد تتجاوز أحياناً العشر سنوات لأجل الحصول على مساعدة سكنية بسيطة لبناء غرفتين وصالة ودورة مياه ومطبخ،

صديقي الفقير هذا لا ينتمي لحزب "الكنبة"، ولا علاقة له بحزب "القنفة"، وإنما هو عضو في حزب الجوع والبؤس والعوز والفاقة، كما أنَّه لا يعرف "الهوامير" التي تتوالد وتتكاثر في اليابسة ولكنه صياد ماهر لتلك " الهوامير" التي تسكن في قاع البحر وباطنه.

هو من الفقراء المنسيين الذين يعيشون خارج هامش الحياة وكأنَّهم لا أحد. كم دولتنا بحاجة ماسة الآن لدعوات هؤلاء الفقراء، كم دولتنا بحاجة ملحة في هذه اللحظة ليرفع هؤلاء المساكين أياديهم إلى السماء يدعون لدولتهم وحكومتهم بالخير الوفير والنفط الغزير، والذهب الكثير.

ربما لا تعلم الدولة أنَّ دعاء الفقراء مستجاب وليس بينه وبين الله حجاب، وأنهم من أهم أسباب حلول الرخاء ووقوع البلاء.

حين قرعت باب بيته أحمرَّ وجهه خجلاً وحياء مني وقال لي: "أعذرني ليس معي مكان استقبلك فيه"، كدت أبكي من الألم، وألطم وجهي من الخجل. شاب بدون وظيفة، وبدون مصدر رزق، وبدون بيت ولكنه مازال يضحك ويبتسم، ويتحرك بين النَّاس كإنسان طبيعي، ولكنه مسكون بالهم معجون بالألم.

أي جمال يحمله هؤلاء البسطاء في نفوسهم، أي صبر يملكونه في صدورهم، يعيشون في أوطانهم فقراء وغرباء، يشبعون يومًا، ويجوعون شهرا.

وهناك من يقبض في الشهر 30 ألفاً دون وجه حق، دون عطاء دون وفاء ودون عمل ودون إنتاج، ودون أن يقدم لوطنه مقابلاً لهذا الراتب الفلكي، وهناك من وظيفته هي مجرد الجلوس في "الكنبات" والحلوى والمكسرات وقبض آلاف الريالات.

أخذني صديقي الفقير إلى أحد المطاعم عندهم وأكرمني أيما إكرام وأنا أعلم بأنَّه لا يحمل في جيبه ريالاً واحدًا، وحين نهض ليغسل يديه سمعته يهمس في أذن مسؤول المطعم، ويقول له: (سجل المبلغ في حسابي) ثم سحبني بعدها من يدي قبل أن أدخلها في جيبي.

لم ينتهِ كرمه عند هذا الحد، بل أجبرني بقسم غليظ على المكوث معه حتى العشاء، وفي العشاء شجون وفنون، اتصل من وراء أذني بأحد أصدقائه الأقل فقرًا منه بدرجة، ورتَّب معه في بيته البسيط وجبة عشاء توسطها خروف كامل، ما أكرم وأسعد فقراءنا، وما أفقر وأتعس أغنياءنا.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال (اللهم احشرني في زمرة المساكين)، إنِّهم أصحاب القلوب الزكية، والأرواح النقية.. إنهم بركة المجتمعات، وعافية الأوطان.