نصائح ذهبية لكل مسؤول حكومي

د. عبدالله باحجاج

كلنا نعلم مآلات السيكولوجية الاجتماعية جرَّاء ما يطال أوضاعها المعيشية من تردٍّ، وأحلامها من ذوبان، وآفاقها من انسداد، منذ فترة ليست بالطويلة، وهذه السيكولوجية تزداد قلقا وخوفا مع كل إشراقة يوم جديد خشية من الجديد المستجد، مما يصبحان معه -أي القلق والخوف- متلازميْن في هذه السيكولوجية؛ فالتشاؤم وصناعة الإحباط واليأس هي عناوين الخطابات والتوجهات الحكومية، فالوزارات قد بدأت تتفنَّن في فرض أو رفع رسوم خدماتها بعد أن فرضت وزارة المالية منظومة جبائية شبه متكاملة، لم نسمع عنها إلا في الدول الليبيرالية المتقدمة، في تحول مفاجئ وغير مدروس للدور التاريخي للدولة العمانية المعاصرة.

فماذا نتوقع من سيكولوجية اجتماعية في ظل هذه التحولات الكبرى؟ لا بُد من تفعيل العقل لمعرفة تأثيرات هذه التحولات على السيكولوجية الاجتماعية، وقد أصبح لزاما على الحكومة العلم بهذه التأثيرات ومآلاتها، ومتى ستغضب وتنفجر؟ وكيف؟ ولماذا؟ وذلك على خلفية ما جرى في المؤتمر الصحفي لوزارة العمل مؤخرا؛ فهو نموذج قد أصبحت تُبنى عليه انعكاسات التحولات على السيكولوجية في ظل الاستمرار في امتصاص الرواتب والمعاشات.

صراحتنا مع ذاتنا في المرحلة الراهنة لا بُد أن ترتقي إلى مستوى هذا الخطاب، وتحتم طرح تلكم التساؤلات؛ لأنَّنا لن نفهم حالة الغضب الناجمة عن عبارة "حزب الكنبة" لو لم تكن هناك مؤثرات بنيوية قد تغلغلت في السيكولوجية الاجتماعية، ومن ثمَّ أثرت على العلاقة بين المسؤولين والمجتمع، رغم أنَّ هناك عبارات ومواقف أخرى أقوى منها قد وردت في المؤتمر، وتم تجاوزها.

وحتى عبارة "حزب الكنبة" لو تمَّ التأمل فيها، سنجد أنها ذات حمولات متعددة، منها إدانة مستويات عليا تستسلم رواتب ومنافع شهرية ودوروية، وهى على الكنبة، وبعضها قبل أن يمتد العمر بها حتى تصل للكنبة، وهى معروفة، فهل سيطالها النظام الإداري الجديد للدولة؟ 

وعندما تثير عبارة "حزب الكنبة" الرأي العام، وتعج بها البلاد،  فهذا يعني أنَّ القرارات المالية والسياسات الحكومية قد صنعت سيكولوجية اجتماعية يجب الاعتداد بها، وأخذها بعين الاعتبار، والإسراع في التخفيف من حدتها، وهذا لن يتأتى إلا عبر الإسراع في تقييم القرارات والسياسات الحكومية، ووقف امتصاص ما تبقَّى من ريالات من جيوب المواطنين؛ فهناك الآلاف من المواطنين رواتبهم ومعاشاتهم ما بين  200 و300 و400 و500 و600 ريال، فكم ستصبح بعد إعادة جدولة ديونها، أعرف موظفا استلم معاشه من البنك لشهر يناير 105 ريالات فقط، رغم أن معاشه التقاعدي 660 ريالا، وآخر يتسلم البنك معاشه التقاعدي كاملا ومع ذلك تُلزمه البنوك بمساهمات مالية أخرى، من أين يأتي بها ومعاشه كله مع البنك؟

وحتى أصحاب الدرجات المرتفعة، والذين أغلبهم يحصلون على معاشات تقاعد تبلغ 1307 ريالات، وهم من في الدرجة الخامسة، وهم يُصنَّفون ضمن الطبقة الوسطى، قد نزلوا من هذه الطبقة إلى الطبقة الدُّنيا؛ سواء بعد خصم البنوك ديونها وفوائدها أو حتى بدونها، ولا يقتصر تردِّي الأوضاع على المتقاعدين فقط، وإنما هي شاملة، تؤثر على كل البنيات الاجتماعية بصورة مباشرة وسريعة، فجاءت الضرائب والرسوم ورفع الدعم عن الوقود والكهرباء والمياه.. بمثابة حروب مالية تستهدف كل مُكتسب اجتماعي له علاقة بمستوى معيشة المواطنين.

فهل هذه الإجراءات المالية تصنع السيكولوجية الاجتماعية المطمئنة والآمنة أم القلقة والخائفة وسريعة الانفعال وردود الفعل؟ والصراحة تقتضي التساؤل التالي: ماذا بعد القلق والخوف على المعيشة الاجتماعية؟ ومما تقدَّم نوجِّه لكل مسؤول حكومي في مرتبة وزير أو وكيل ومنهما إلى الحكومة.. النصائح الذهبية التالية:

- ضرورة العلم والوعي المسبقين بالبُعد السيكولوجي الاجتماعي من القضايا المطروحة للنقاشات سواء في المؤتمرات الصحفية أو اللقاءات الإذاعية والتليفزيونية، أو مناقشات مجلس الشورى، فمهما كانت بلاغة المسؤول وقدراته وأسلوبه؛ فهذا لن يغنيه أن يعطي نفسه مساحة من الوقت لدراسة المواقف الاجتماعية مسبقا، وكيفية استيعابها في حالة إثارتها في ضوء قلق وخوف المواطن من سياساتهم وعدم الثقة فيهم.

- الجدية والموضوعية ضرورتان ينبغي أن تصاحبا الخطوة التالية بعد العلم والوعي عن المواقف الاجتماعية، فأي نكتة أو سوء تقدير بالمزاج النفسي الاجتماعي من قبل المسؤول لو من قبيل الدعابة، سيظهر وكأنه يرقص فوق آلام المجتمع، وهذه حقيقة نلمسها من التموقع الاجتماعي الذي نعيشه.

- العقلانية والصراحة في خطاباتهم؛ وذلك حتى تكون مقبولة؛ فعندما تختزل الأزمة المالية في أربع سنوات فقط؛ فهل يؤكد الوزير أو الوكيل أن بعدها سترجع البلاد إلى مرحلة اللاضرائب أو اللارسوم ؟ وهل سيتم رفع معاشات الآلاف من المتقاعدين الذين أُحِيلوا للتقاعد إلزاميًّا برواتب متدنية؟ وهل سيعود الدعم الحكومي للوقود والكهرباء والمياه؟

مثل هذه الخطابات الملوَّنة التي تصطدم مع الوعي والمعرفة الاجتماعية، هي واحدة  من مجموعة أسباب ترسخ أزمة الثقة بين المسؤولين والمجتمع، فالوعي الاجتماعي يرى أنَّ ما يتم بناؤه منذ يناير عام 2020، هو الذي سيقوم عليه تأسيس النهضة المتجددة، لتنطلق منه كأرضية لتحقيق أجندتها المرسومة.

- ممارسة الهامش المعرفي عند بعض الوزراء والوكلاء عن أوضاع المجتمع، وتوظيفه لتعديل قرارات مالية وسياسات حكومية؛ فهم في موقع ينبغي أن يكونوا فيه من الناصحين والمؤتمنين على المسير والمصير، وهنا يلتَقِي معهم أعضاء مجلس الشورى الذين هم في موقع المسؤولية التاريخية، وقد بدأ لنا أنَّ هناك جهلا فوقيًّا بالأوضاع الاجتماعية، وإلا، فما هي معلومات الكراسي الفوقية عن الأوضاع الاجتماعية حتى يتَّخذوا قرارات وسياسات مؤلمة اجتماعيا وبسرعة زمنية فائقة السرعة؟

أتمنَّى أنْ لا يأتي هنا من يقول، إن البلاد في أزمة مالية؟ لأننا سنقول له إنَّ معالجاتها تفجِّر أزمات في مستواها أو أكبر منها، وسيرد علينا قائلا: وما الحل؟ لن نجده سوى في تضامن أثرياء رجال المال والسياسة "طواعية أو إلزاما"؛ فهم الذين استفادوا من الخمسين سنة الماضية بشتى الكيفيات المشروعة وغير المشروعة.

- وزاراتكم أيها الوزراء، تحتاج ثورة إصلاحية عاجلة، فإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، نتائجها الإيجابية مقرونة بهذه الثورة، وهذه النوعية من الإصلاحات بعيدة الآن كل البُعد عن المأمول من عملية استوزاركم؛ فقد زرت بعض الوزارات، إحداها ارتبطتُ بها بمشاعر وعواطف تاريخية.. وصل بنا التأثير إلى التمني بعدم إحداث التغييرات، ولن أخفي عليكم حجم الدموع التي تساقط في عين المكان، عندما قارنت بين الوضع ما قبل التغيير والوضع ما بعده الآن.. فهل هذا إصلاح يا معالي الوزير أم تدمير؟ هل نعمم؟... الموضوع له تتمة.