الاقتصاد المختلط

 

د. عبدالملك بن عبدالله الهنائي

باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

 

يحتدم الجدل بل الصراع، خاصة منذ أوائل القرن العشرين، حول النظام الاقتصادي الأمثل للدول والمُجتمعات، والمدى الذي يجب أو يُمكن للدولة أن يبلغه تدخلها في الاقتصاد. ولأهمية ذلك جعلت الدول النظام الاقتصادي الذي اختارته جزأ أساسيًا في دساتيرها وفي أنظمتها الأساسية. وفي سلطنة عُمان نص النظام الأساسي للدولة في المادة 14 منه على ما يلي:

"تكفل الدولة حرية النشاط الاقتصادي على أساس العدالة الاجتماعية والتعاون والتوازن بين النشاطين العام والخاص، لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وزيادة الإنتاج، وتحقيق الرخاء للمواطنين، ورفع مستوى مستوى معيشتهم، وتوفير  فرص العمل، والقضاء على الفقر".

وفي الآونة الأخيرة، خاصة مع تزايد أعداد الشركات التي تملكها أو تساهم فيها الحكومة، أصبح الكثير من المتابعين يدعون إلى التقليل من دور الحكومة في الاقتصاد والانسحاب أو التخارج من تلك الشركات، بدعوى أنَّ كثرة الاستثمارات والشركات التي تملكها الحكومة تجعلها تنافس القطاع الخاص وتضر بالاقتصاد. إلا أنَّ آخرين يرون أنَّ للدولة وعليها دور كبير في الاقتصاد، وذلك لأسباب تنموية، اجتماعية واقتصادية وبيئية، سواء من ناحية إقامة مشاريع البنية الأساسية والمشاريع الاقتصادية الكبرى أوناحية التدخل لتصحيح "إخفاقات السوق"، التي تزداد خطورة في وضع انعدام المنافسة أو تركز الاحتكارات. ومهما اختلفت أو تعددت وجهات النظر حول الموضوع، فإنه من الضروري أن يكون هناك انسجام وتناغم بين ما ينص عليه ويرمي إليه النظام الأساسي للدولة وبين السياسات والإجراءات التي تتخذها الحكومة من جهة،  وبين الدور الذي يجب أن يقوم به القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني من جهة أخرى.

تقليدياً تنقسم الأنظمة الاقتصادية في العالم إلى نوعين، هما الاقتصاد الرأسمالي، وهو النظام القائم على مبادرات الأفراد والقطاع الخاص من حيث إدارة وتملك "أدوات الإنتاج". ويتفاوت دور الدولة في الاقتصاد الرأسمالي من تدخل من أجل الرفاه وتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي، كما هو في معظم دول غرب أوروبا، إلى دور شبه معدوم، كما كان تريد مارغريت تاتشر  في بريطانيا ورولاند ريغان في أمريكا في ثمانينات القرن الماضي، وذلك وفق مبدء "دعه يعمل، دعه يمر"، وعلى أساس أن الدولة هي الحارس والمنظم فقط وليست المالك والمشغل.

النظام الآخر هوالنظام الاشتراكي، وفيه أيضاً يتفاوت دور الدولة من تملك كامل "لأدوات الإنتاج" مع تخطيط مركزي شامل لكل القطاعات والأنشطة الاقتصادية، كما كان في الاتحاد السوفييتي وعدد من الدول الاشتراكية، إلى نظام أقل مركزية في التخطيط ويسمح بتملك كثير من أدوات الإنتاج، وقد نتج عن هذا النظام عدد من الصيغ، مثل صيغة "الاشتراكية العربية" التي اتبعتها مصر  وبعض الدول العربية بين ستينات وثمانينات القرن الماضي، أوالصيغة الأقرب إلى النظام التعاوني مثل الذي اتبعته يوغسلافيا وكذلك الجزائر خلال نفس تلك الفترة.

ومنذ ثمانيات القرن الماضي أدخلت الصين على نظامها الاشتراكي تعديلات كبيرة جعلته يختلف عمَّا كان متبعا في عهد الزعيم ماوتسي تونغ، فتراجع في النظام الجديد دور الدولة، خاصة في تملك أدوات الإنتاج، وأصبحت الصين تطلق على نظامها الحالي "اقتصاد السوق الاشتراكية". ويمكن القول إن أغلب الدول في الوقت الحاضر تتبع نظاماً اقتصادياً مختلطاً يجمع بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، وهو الذي يتيح مجالا واسعاً من الحرية للأفراد والشركات لتملك أدوات الإنتاج واستخدام رأس المال ولكنه في نفس الوقت يتيح للحكومات إمكانية التدخل والاستثمار بهدف تحقيق أهداف تنموية واجتماعية وبيئية.

وفي سلطنة عُمان تملك الحكومة أوتسهم في عدد من الشركات، التي بدورها تسهم في عدد كبير من الشركات التابعة والشقيقة، وهذه جميعها تتبع جهاز الاستثمار العماني أو تخضع لإشرافه، وهناك شركات أخرى تتبع شركة طاقة عُمان، وهي لا تخضع لإشراف جهاز الاستثمار، هذا بالإضافة إلى استثمارات صناديق التقاعد الحكومية. وقد أنشأت الحكومة أكثر تلك الشركات لأهداف تنموية أو لأنَّ القطاع الخاص غير قادر ولا راغب في الاستثمار في الأنشطة التي تعمل فيها. وبالرجوع إلى المادة 14 من النظام الأساسي للدولة المذكورة أعلاه، يلاحظ أنها تشير إلى عدة أمور جوهرية، أهمها حرية النشاط الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، والتوازن بين النشاطين العام والخاص، وزيادة الإنتاج، والقضاء على الفقر، وتحقيق الرخاء للمواطنين. وبالنظر بحيادية إلى أداء الشركات التي تملكها أو تسهم فيها الحكومة فإنِّه لا شك أن بعضاً من تلك الشركات قد ساعد في تحسين بعض الخدمات، مثلما يحدث في قطاع المواصلات والنقل البحري، كما أن بعضها ساعد في زيادة الإنتاج وفي رفد الميزانية بموارد جيدة، مثل قطاع المصافي والبتروكيماويات، بالإضافة  إلى أنَّ بعض تلك الشركات استوعب الكثير من الكوادر الوطنية وعملت على تأهيلهم وتدريبهم في مجالات اختصاصها، الأمر الذي ساعد على تطوير الموارد البشرية في البلاد. غير أنَّ البعض يعيب على تلك الشركات ارتفاع تكلفة إدارتها وتشغيلها لأسباب منها ارتفاع سلم الرواتب والمصاريف الإدارية فيها. ويرى هؤلاء أنَّه من الممكن الوصول إلى إنتاجية أعلى وأداء أفضل بتكلفة أقل فيما لو امتلك القطاع الخاص تلك الشركات. وقد يكون لتلك الآراء وجاهتها في بعض الجوانب، لكن الثابت أنَّ القطاع الخاص لم يكن ليبادر بالمخاطرة بالاستثمار في قطاعات وأنشطة كبيرة التكاليف وعالية المخاطر كتلك التي استثمرت فيها تلك الشركات.

وحيث إنَّ التنمية عملية مستمرة بما تعنيه من تحقيق العدالة الاجتماعية وخلق فرص العمل الجديدة وتحقيق الرفاه للمواطنين، فإنَّ دور الحكومة يجب أن يكون مستمراً في إيجاد شركات تُحقق ذلك الهدف ثم الخروج من تلك الشركات عند تحقيقه لتبدأ من جديد في تأسيس شركات أخرى تعمل في قطاعات وأنشطة جديدة وهكذا. الملاحظ في الوقت الحالي أنَّ بعض الشركات والاستثمارات المملوكة كلياً أو جزئياً من الحكومة قد وصلت إلى مرحلة شبه مستقرة، وإن لم تكن تحقق أرباحًا عالية، كما أن بعض تلك الشركات تستثمر في قطاعات وأنشطة لم يعد من الضروري البقاء فيها، مثل قطاع العقار والسياحة. لذلك فإنه من المناسب أن يقوم جهاز الاستثمار وكذلك شركة طاقة عمان بتقديم خطة زمنية للتخارج من بعض تلك الشركات، وذلك بطرح جزء من أسهمها للاكتتاب العام في "بورصة مسقط"، وفي ذلك فائدة كبيرة للاقتصاد الوطني عامة وكذلك لجهاز الاستثمار بصفته أصبح الآن مالكا لبورصة مسقط، على أن يخصص جزءا من أسهم الشركات المطروحة لاكتتاب صغار المستثمرين، وذلك من أجل المساعدة في تحقيق العدالة الاجتماعية الواردة في المادة 14 المشار إليها أعلاه. هذا بالإضافة إلى إمكانية تخصيص نسبة أخرى من الأسهم المطروحة لمستثمرين أجانب، بما يُساعد على رفد السوق باستثمارات أجنبية قوية أو خبرات أو تقانة عالية تحسن من أداء تلك الشركات. وحيث إن بعض الشركات التابعة للشركات المملوكة للحكومة هي شركات ذات رأس مال صغير ولكنها تقدم سلعًا أو خدمات للشركات الأكبر ويمكن طرحها للاكتتاب العام، فإنِّه من المناسب أن يطلب جهاز الاستثمار من بورصة مسقط إنشاء سوق لتداول أسهم الشركات الصغيرة والمتوسطة، لأنَّ من شأن ذلك المساعدة في توسيع وتعميق سوق المال وجذب المزيد من صغار المستثمرين إليه.

باختصار، في الدول النامية وفي كل الدول التي تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والرفاه لابد أن يكون الاقتصاد مختلطاً. ومن مهام الحكومات في الاقتصاد المختلط العمل "كمكينة" engine تولد شركات لتحقيق جانب من أهدافها التنموية، لكنه يجب ألا تحتجز  تلك الشركات حتى تشيخ وتتعثر، بل يجب إطلاقها لكي تفيد السوق وتسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسن من أداء الاقتصاد.

تعليق عبر الفيس بوك