لماذا أختلف مع الدكتور جاسم سلطان؟ (2-2)

 

عبد الله العليان

ناقشتُ في الأسبوع المنصرم ما قاله الباحث والمؤلف الدكتور جاسم سلطان، في الندوة الحوارية التي عقدت بين مسقط والدوحة، والتي حملت عنوان "أزمة العقل المسلم المعاصر"، وبعد انتهاء المتحدث من ورقته، فُتح باب النقاش العام  للمداخلات والأسئلة المتعلقة بالندوة.

وقد لفتَ انتباهي أحد الأسئلة الموجهة إلى المتحدِّث، عن حركة الإصلاحيين العرب في القرن التاسع عشر وما بعده، وما آلت إليه هذه الحركة الإصلاحية، ورأيه الباحث في تراجعها، عما كانت عليه في الفكر والتجديد. وجاء الرد من د. جاسم سلطان غريباً ولافتاً؛ حيث أعتبر أن العودة للتراث، هي المتسبب في تراجع هذه الإصلاحية، ومن المفكر والعلامة السيد محمد رشيد رضا الذي عاد للتراث كما قال، وهذا فيما معناه أن التراث هو السبب في تراجعاتنا النهضوية والسياسية وغيرها من الأزمات والتراجعات.

والحقيقة أنَّني أستغرب أن يتم تجاهل الكثير من الأخطاء السياسية والمنهجية من النخب التي تدير المسؤولية في هذه الدول آنذاك، وظروف تكالب الدول الاستعمارية واحتلالها لأغلب الدول العربية، وتحركها الحثيث لإجهاض أي فاعلية للنهضة والتقدم عند العرب والمسلمين؛ فكيف يتم تجاهل ذلك العمل الخطير، ويتم رمي كل ما جرى على تراث الأمة وماضيها؟! وقد أشرت في الأسبوع الماضي إلى بعض هذا التأثير الذي فعله الاستعمار أثناء احتلاله، وما سعى إليه في ربط العرب بالغرب؛ لذلك تحرك بالفعل فكريا وثقافيا، للإلحاق به، ونكون مجرد مقلدين له ولسنا مبدعين من خلال تراثنا الفكري والديني، وهذا يكمُن في الحملة الشرسة على تراث الأمة وماضيها؛ لأنَّه يعرف أنَّ أي أمة لا يمكن أن تبدع وتنهض إلا من خلال هويتها ومن تراثها الحي، وهذا ما سعى إليه المستشرقون، تحت ذرائع المعرفة والعلم والتعرف على ثقافات الشعوب، ومنهم من سبقوا الحملة الاستعمارية ومهدوا لها من خلال التعرف على الثقافات والعادات والقيم العربية، وهذا ما هدف إليه الاستعمار.

ولا يُعقل منطقيًّا أن يكون التراث هو المعيق للأمة، مع أن القرار وصنعه، ليس بيد التراثيين وأنصارهم، بل بيد النخب القابضة على السلطة، ويعرف ذلك د. جاسم سلطان تمام المعرفة، وهؤلاء جل اهتمامهم بالنصوص المتعلقة بفقه العبادات، وبعض النصوص التي لا تتعلق بالقرارات الكبرى المتعلقة بالنهضة والتقدم العلمي، والتقني، والصناعي، وليس معقولاً أن نلغي عقولنا، ونصدق أن تراثنا هو سبب تأخرنا وإخفاقاتنا! وإذا كان البعض يعتقد أن الغرب تقدم لأنه أقصى الكنيسة الغربية عن تدخلاتها في العلم والسياسة والاختراع، وهذا ليس دقيقاً أيضاً ويخالف الوقائع والظروف كما جرت في القرن الثامن عشر، فإقصاء الكنيسة هو عودة المسار الصحيح للديانة المسيحية، كونها ديانة روحية، وتدخلها في غير مجالها، والنص الثابت بالرومانية هو "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، ثم من قال إنَّ الغرب تجاهل تراثه، أو ألغاه من فكره وثقافته ووجدانه؟ هذا القول ليس صحيحاً أيضاً، ذلك أن الغرب لا يزال محافظاً على تراثه الثقافي والفكري، ويرجع دائماً إلى تراثه الروماني واليوناني، وهو يعتبر التراث مقوماً من مقوماته الفكرية والفلسفية ويحترمه، أما ما جرى للكنيسة فهو أنها خرجت حدود صلاحيتها، وقد سبق ذلك أنْ قام بعض الغربيين بالإصلاح الديني في القرن السادس عشر، ومهَّد لهذا لما جرى بعد ذلك للكنيسة.

بل إنَّ الغرب لم يتخل عن تراثه الديني، مع إقصاء الكنيسة، وبقيت العقلية راسخة حتى بعد سقوط البابوية وتأسيس العلمانية "وسنكون مخطئين - كما يقول د. محمد عابد الجابري- إذا اعتقدنا أن الغرب قد تحرر من تلك الخلفيات الثقافية والدينية، وأنه الآن غرب علماني خالص عقلاني براجماتي لا غير، سنكون مخطئين إذا نحن جردنا الغرب من ذاكرته الثقافية الدينية ذلك لأنه إذا كانت هذه الذاكرة تفعل بصورة واعية في الكنسيين والمتطرفين في كل من أوروبا وأمريكا؛ فهي تفعل ذلك بصورة لا واعية في العلمانيين والليبراليين (..) وإن الذاكرة الثقافية والدينية ما زالت تمارس فعلها في تفكير الصحفيين والمحللين وصناع السياسة من الليبراليين العلمانيين في الغرب".

أمَّا ما قاله د. جاسم سلطان عن محمد رشيد رضا؛ فهذا القول ليس جديداً فقد كرره العديد من الباحثين والكتاب، خاصة أصحاب التوجهات الليبرالية واليسارية وحتى من غيرهم، من أنه انحرف عن الإصلاح الذي سار عليه أستاذه محمد عبده والسيد جمال الدين الأفغاني، وأصبح سلفيًّا! وقصة أصبح سلفيًّا تحتاج إلى وقفة عادلة ومنصفة في تقييم الرجل تجاه الإصلاح والتجديد؛ فالرجل يعرف عنه وعن أستاذه تمسكه بالسلف الصالح، ونتذكر المقولة الشهيرة للإمام محمد عبده، عندما قال إن هدفه: "تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمّة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى"، وما قاله أيضا العلامة رشيد رضا، في قوله إن "معرفة الإسلام الصحيح تُستمدّ من القرآن والحديث وفهم الصحابة والسلف الصالح".

إذن، كلمة السلف التي تحدث عنها رشيد رضا ليست جديدة، وكأنه تقلد مذهبًا جديداً؛ فاهتمامه بالرجوع إلى سلف الأمة، وليست نظرة جامدة عن هدف تخليص الأمة من واقعها أبدا، بل إن هذا التوجه عندما أحس بالخطر الجسيم من الهجمة الاستعمارية على الأمة، ومحاولة استئصال قيمها وهُويتها، وسقوط الخلافة، وليس الجانب العسكري والاقتصادي؛ فالحديث عن الإصلاح في هذا الظرف ضرباً من الاسترخاء والترف، والحاجة لحماية الهُوية والقيم والحفاظ عليها من الانسلاخ والذبول تبقى لها الأولوية حتى تنتهي الغمة، وهذا يحدث حتى الحيوان عندما يحس بالخطر، فإنه يلتف حول نفسه لمواجهة الخطر؛ لذلك أرى أنَّ النقد للمفكر والمجدد محمد رشيد رضا، فيه نوع من الظلم له ولسيرته وجهده الفكري والعلمي والتجديدي.